عبد الرزاق بوتمزار -le12.ma

اليـومُ الـرّابـ4ـع

مُرّاكش الصّيف: اللـّيل. للمدينة زمنٌ واحد. في النّهار إنْ أنتَ تجرّأتَ وأطللْتَ مِن عتبةِ الباب ردّتكَ موجاتٌ لافِحات.. عُد إلى الخيمةِ، إذن، وانتظرْ نسمة قد تهبّ ببن حين وحين. ولكَ الماءُ ملجأ، إنْ أنتَ أردت قتلَ وقتٍ وصهدٍ مُتربّصَيْن..
رغم ذلك، لمْ يكن الحرّ بمثل سخونة اليومِ الأوّل، قال كثيرُون. استنتجتُ ذلك مِن الوقتِ القياسيّ الذي أمضيته نائماً.. في العادةِ كانتْ التـّاسعة صباحاً تضع نهاية لرقدتي..
في اليومِ الرّابع (ذاتَ رمضـ@َـان) نمتُ حتى الثانية عشرة والنصف.. قلتُ لي: لا شكّ أنّ الجـو ليس حارا إلى ذلك الحدّ.. الحدّ؟ تُطلّ مِن تجاويف الذاكرة سنـوات الثمانينيات، التي شهدتْ أرقاماً قياسية، واسألْ صائمي رمضانَ في مدينة تبدو “عادية” فيها 45ْ كدرجـةِ حرارة..
حين اقترحتُ أنْ نـُفطر لدى شقيقتي كنتُ أعرف أنّ اقتراحي سيحظى بالقبول من الجميع، حتى من الصغيرَين. سيزوران عمّتهما ويغادران هذا القفصَ السّاخنَ سويعات. نصِل الرّحمَ ونُغيّر الجوّ..
فـي انتظـار ذلك، فضائيّـاتٌ مُملـّة، كـُلٌّ منها يُغني عـلى ليلاه. فكرتُ في متابعة “أيادٍ كانتْ تسرق القمر”، حيث تـوقـّفتُ مِـن كتـاب راجـع، لن يترُكني شغبُ الثلاثة أقرأ.. طلبَا فيلماً مُسجّـَلاً فـي حاسُوبي. أشعلتُ المشقـُوف وضبطتُ الصّوت وذكّرتُ مهدي بطريقة مُتابَعة أجزاء الشّريط دون الاضطرار إلى إيقاظي إنْ أنا غفوتُ كي أشغّل له الجزءَ الموالي من فيلمه المُفضَّل..
مددتُ يدي إلى الأعمال الكاملة لراجع. عليّ أنْ أنهيّ قراءتَه في أقرب فُرصة كي أعيدَه إلى “وزير الثـّقافة” وأقترضَ منه كتاباً آخـَر. قرأت:
V. خذونـي معكم أيّها البحّارة
لأنّ البحر يمنح ساعة للقلب، ها جسدي ينـزّ بكـُمْ
يُغامزني الرّذاذ فأنتشي
تلك المسافة ليس تفصل عاشقاً عن عاشق
وأنا المُحمَّل باشتعال رائع لليُتمِ أكتشف الصّحابة
في جنُون الخيل أو أرقِ المناره
عيُون البحر عرّتني
وحين كـُشفـتُ علّمني التّحدّثَ بالإشاره
ألا يا نورسَ الشّطآن سهّرْني لأرصد قامتي وسط امتهان
عـابرٍ للطّول، سهّرْني لأبحثَ عن إناءٍ لاحتواء مُلُوحتي
أنا حامضٌ والبرقُ سـافَرَ بي
كأنّ الأرضَ تطلع بي منَ الغثيان أرسم وجهَه وأقول:
هَذا البحرُ متّكئ عليّ بمرفق
أيّ اتّجـاه غير أن نمشيّ معاً صوب انفجارٍ رائع..
………
………
حـين استيقظتُ كان الجهاز قد ركَن إلى الصّمت وكذلك الصّغيران. وحدَه زُهير علا صدري وهـو يمدّ يدَيه نحو وجهي كي يخبشه بأضافره، المقلـَّمةِ لحسن الحظ، وإلا كان أيقظني بندبةٍ فوق عيني.
تـوقـّفْ، أيّها الزّمنُ الرّاكضُ فينا قدُماً إلى الأمام. وامنحْني ألـْفَ فُرصة من مثل هـذه: الانفـراد بصغيري الـرّائع.. (هَذا البحـرُ متـّكئ عليّ بمرفق.. أيّ اتجـاه غير أن نمشيّ معاً صـوب انفجارٍ رائع).. صدقتَ أيّهـا الشّـعر، صدقتَ راجـع.. طويتُ الكتاب وأعدتُه إلى المحفظـة السّوداء خلف الجهاز الثـقيل.
حين تلُوح الأمّ للرّضيع يصعُب عـلى الأب الاحتفـاظ باهتمامه. أطلق زهير صافرة انتهاء الهُدنة في البيتِ الصّغير بعدما رآها تعبر في البهو. استفاق الصّغيران. قطراتُ الماء تحتَ الدّش البارد أفضلُ حلّ لمحارَبة صهد السّاعات الأخيرة. ربّاه، لمـاذا لديّ إحسـاسٌ بأنني صمتُ هُنا يومين مُتتابعَين، والنّهارُ واحد!..
لـمْ تكن المسافـة كبيرة بين المنزلين. غالباً سنقطع المسافة مشياً، قلتُ لهُم وأنا أرصدُ ردّ فعل مهدي. يُحبّ ركـوب “الطـّاكسي”. لكنْ ماذا أفعـل لك، يا صغيري، وأنتَ تعرف أنـّهُم كانوا يرفضون نقلنا حتى ونحن أربعة، فكيف وقد صرنا خمسة؟..
بعضُ المواقفِ، لغرابتِهـا، تبعث عـلى’ الحرة والتـّسـاؤل: زوجان وطفلان صغيران يُريدون أن يركبوا تاكسي صغيراً..
-أنتم أربعة، والقانون يقول بوجوب نقل ثلاثة، لا أكثرَ..
-طيّب، عـلى هذا الأساس علينا أن نركب سيارتين فقط لأنّ قـانونكم (المُعمّّر عـلى الأرجح) لا يسمح بنقل أكثرَ مِن ثلاثة أشخاص.. وهـل يعُدّ قـانونُكم الأحمقُ عصفوراً في عمرِ شهرينِ أو ثلاثة “شخصاً” على والدَيه أن يستقلا سيارتين كي يتنقـّلا؟ آهٍ، نسيـتُ: قـانونُكم خلّفته أزمنة قديمة…
هيّا، تشجّعوا، لقد تأخّرْنا.. يجب أن نصل منزل عمّتكم قبل أذانِ المغرب، هذا هو المُهمّ الآن..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *