عبد الرزاق بوتمُزّار

 

اليـومُ الثــ2ــانِـي

 

الخامسة و17 دقيقة. صحوتُ. لمْ يعُد ثمّة مجالٌ للنومخ. أعرف نفسي جيداً: حين أفتح عينَيّ للمرّة الثانية من إغفاءة لا يمكنني، بعد ذلك، العودة إلى النوم مطلقا.
مرّرتُ بعض الماء على وجهي ولبستُ. كانتِ الأجواء في الخارج قد كرّستْ بابَا رْمضان شهراً “مألوفاً” رغم أنه بالكاد في يومه الثاني..
ما دمتُ قد جرّبتُ السّمك وما جرى مجراه أمس فسأختار اليوم نوعا آخر مختلفا تماما. لن يكون فوق طاولتي غيرُ الفواكه الطرية! لا سمكَ ولا مْسمّن ولا شباكية ولا حتى تمْر. فقط عصائر وبرقوق وكرموسْ ومْنونْ. سيكون هذا إفطاري اليوم، قلتُ لي وأنا أتوغـّل في أزقة السّويقة بحثا عـن الكرْمُوسْ..
حين فقدتُ الأمل في إيجاده لدى كـُلّ حوانيت الخضّارين المُصطفّة والضّيقة، تذكّرتُ محلا كنتُ قد رأيتُ فاكهتي المفضلةَ في أحد صناديقه قبل أيام.. قصدتُ المحلّ وأنا أفكـّر في فاكهة بديلة إذا لم أجد ضالّتي.. كان الخضّار يُعيد “تنميق” ما تبقى منَ التّين في الصّندوقين. اقتربتُ:
-السّلامُ عَليكومْ.. بشحالْ هادْ الخيرْ، أعمّي؟
ـ… ميّة دْريالْ!
كان كلّ مـا تبقّى من التّين حبّاتٌ “مُهترئات”، بينها بعضٌ صالحات للأكل.
-هـاكْ أوْليـدي عْبرْ، خودْ حتّى مْـن هـادا، راهْ بْحالْ بْحالْ فْ الثّمنْ..
قال وهـو يمدّ إليّ بْلاستيكة بنية. شرعتُ أعزلُ من حبّاتِ الصّندوقين. أحبّ التّين الأخضر، يُذكّرني بالباكـُورْ، بحبّاتِه الكبيرة الشهية. أضفتُ كرموساتٍ سوداء (وإنْ بدتْ لي أقلّ جودة) وأرجعتُ إليه البلاستيكة ليزنَهـا.
-يُمكنُك أن تزنَ كيلوغرامين.
قلتُ حين رأيتُ الكهلَ يضع جانباً الحبّاتِ الكبيرة، الناجية من الاهتراء داخل الصّندوقين، في هذا الجو اللافح، ويحتفظ في الإناء البلاستيكيّ بما يريد..
-هاتِ حبّات إضافية، إذن!
حين هممتُ بدفع ثمن سلعتي، قال وهو يمرّر يده على حبّاتِ الملون:
-ما تديشّ من هاد المنون؟ راه لذيذ، وْالله إلى دوّخاتني ريحتـو..
-واخـّا، عبْر ليّ شي شويّة..
تناول ملونتين ووضعهما فوق الميزان وراح يضبط “الصّروفْ”..
ناولني الجميع. سألتُه:
-أشْ عْـندي ألحاجّ؟
-45 درهمْ!
أوّاهْ! قلتُ لي..
-شحالْ گْـلتِ ليّ؟
45 دْرهمْ.. جُوجْ كيلو كرمُـوسْ بستّ ميّـة والمْنـُونْ 300، هي 900 دْريالْ..
أرجعتُ العشـرين درهماً (شْقفـاتْ) إلى جيبي وأنا أبلع ريقي الصّـائم، المسكين. فهمتُ، متأخراً مع الأسف، أنه حين سألتـُه عـن ثمن الكْرموسْ، قال (تـْلتْ) ميّـة وليس ميّـة (وْحدة) كما فهمتُ في البداية.
أخرجتُ القـْرْفية ومددتُهـا إليه، وأنا أدقـّق فـي ملامحه، باحثا في تفاصيلها عـن أحدِ أولئكَ “المْطـُوّرينْ” الذين تغنّى بهم المُبدع الرّاحل الحسين السّـلاوي في أغنيته الشّهيرة “حْضِي راسْك”.. كيف نسيّ أن يُضيف إلى بائعي الـدّجاج هؤلاءِ الخضّارين الماكرين؟!
هل يتحدّث هذا الكهل دائما بهذا الصّوتِ المُنخفض، أم تراه يلجأ إلى ذلك فقط كنوعٍ من التـّمويه للإيقاع بزبائنه؟..
رحتُ أسألُني وأنا أبتعد عن حانوته “المُلتهب”.. لا أدري لماذا، لكنّي اقتنعتُ بأنّ ذلك الخضّار ماكرٌ يتعمّد نُطقَ الأعداد الأولى لأسعاره بصوتٍ منخفضٍ حتى يلتبس الأمرُ عـلى أمثالي ويبيعَهم سلعَه “دْقـَّة لـْلنّيفْ”!..
صـافي، دابا، اللـّي كانْ كانْ، غيـرْ كـْمّدْها لعضامْكْ وْهُـوّدْ مْـع السّـويقـة.. 45 دْرهمْ كرمـوسْ وْمْنـُونْ لشخصٍ واحد..
عشتُ فيكِ يا الدّار البيضاء ورأيتُ!..
حملتُ البْلاستيكة ولففْتُ يميناً، نـُزولاً صوب الحيّ الخلفيّ..
-غادي تْفطر عْندنا اليُومْ، ياكْ ألبْهجة؟
قالتِ الشّريفة (“مـولاتْ الـرّيستـُو”، كمـا أطلقتُ عليها يوما وأعجبها اللقب). أعادَني سؤالـُها من شرودي.
-لا، ألشّْريفة، اليُومْ ما عْندي ما نْديرْ بْشي مْسمّـن ولا شبّـاكيّـة ولا حْتّى بالحُوتْ..
أجبتـُها، مستـدركا:
-عْـلاهْ ما گْلتْ ليكـْشّ، اليـُومْ راني نـاوي نـْفطْر كرمُـوسْ.. بْغيـتْ مْـن عنـدكْ “عـا” الحْريرة.. رانِـي شْريتْ الكـرموسْ بـ600 دْريالْ!..
أوّاااهْ عْـلى سْتّ ميّة؟! وابْزّافّ..
-واسيـري كَـُوليهـا لبّاكْ المعـْطي، اللـي سُوّلتُو بشحالْ الكيلـُو كَـالْ ليّ: “مِـيّة دريالْ”، وفاشْ بـِيتْ نْخلّصْ وْلاّتْ تلتْ مِيّـة دريال!..
-هههههه.. وْاللهْ إلى عْبـْر عْليكْ..
-ياااكْ؟ إيوا إلى بيـتِ تتّخلـّصي تْبعيني، إلى عـْندكْ شي رْكابي!
-هاهاهاهاهاها.. وا غيرْ سيرْ، راك مْعروف!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *