عبد الرزاق بوتمُزّار

 

حلقة 1: 

غامضٌ وغريب..

الذين عرفوا الطيّب وعاشروه يُجمعون على أنه شخص غريب الأطوار، لكنْ إذا سألت أحدهم كيف انتهى إلى هذا الاستنتاج لا يجد له تفسيرا مُقنِعاً. “أنت جادّ وهازل في الوقت نفسِه؛ أمْرُك يدعو إلى الاستغراب”؛ قال له أحدُهم يوما. حين ألحّ عليه في معرفة ما دفعه إلى وصفه بالجِدّ والهزْل في الوقت ذاته، ضاعتْ منه الكلمات وظلّ مُطرقا دون أن يستطيع النظر في عينيه ولا أن يعرف لماذا قال ذلك؛ قبل أن يُتابع، وقد حاصره الطيّب بنظرته وصمته:
-لا تسألْني كيف، لكني أجدك شخصاً غريبا وكفى. شيءٌ ما فيك، لا أعرف ما هو، يجعل هذا أقربَ وصف يتبادر إلى الذهن بشأنك.
جميعُهم ينتهون إلى النتيجة ذاتِها: شخص غريب و/أو غامض. في المقابل، يرى آخرون أنّ داخله شفاف وبه طاقةً ما تجعل الأمور تسير بالكيفية التي يريد؛ تعكس ذلك رغبةٌ أكيدة في تحقيق هدفٍ ما يبدو بعيداً، مثل السّراب، بينما هو مُتشبّث باللحاق به.

الطيب لم يكن يعلم كل ما يقال عنه؛ يعرف فقط أنه ملحاح ويعشق التحدّي. رسم لنفسه هدفاً وسعى إليه بكلّ ما أوتي من إصرار؛ ما عدا ذلك يبقى بالنسبة إليه مُجرّدَ تفاصيلَ بسيطةٍ لا قيمة لها. جسديا، لا قوةَ تُذكَر للطيب؛ ما تبقى له منها بَعْد معارك الحياة، التي خسر أكثرَها، ذهبتْ به حادثة بلهاء أدخلته المستشفى بكسر مزدوج في ساقيه ليُغادرها، بعد شهر، بعكازتين وعاهة قديمة ومستفحلة ما فتئت تتردّى. رغم ذلك، قام من كبوته وسار على درب الإصرار في سبيل هدفه الأوحد في الحياة، كما ردّدَ دوماً.

دقيق ويبحث عن الصّيغة المثلى للأشياء والأمور، ولو تطلـّبَ منه ذلك الكثيرَ من الوقت والجهد والتضحية؛ هكذا يجد هو نفسَه. ربما يكون هذا تحديدا ما جعلهم يتفقون على أنه شخص غامض، شخص غريب. لكنّ أكثر ما آلم الطيب ما سمع، ذاتَ يوم بعيد، من أحدهم وهو يقول عنه إنه مجنونٌ فقدَ كلّ صلة بالواقع!.. كان الطيب يعُدّه صديقا، هذا الذي وصفه بالمجنون. سمع الجملة بالصّدفة؛ كان يجالسهما في مقهى الحيّ عندما جاءه شقيقه الأصغر يطلب منه الحضور دون تأخّر إلى البيت. قطع بالكاد بعض الأمتار حين تذكـّرَ أنه نسي محفظته التي كان يجمع فيها أوراقه “المُهمّة” كما كان يقول لجلسائه. عند نهاية الزّقاق الضيّق استدار يساراً. كانا يجلسان إلى طاولة أمام المقهى حيث تركهما، في المكان الذي اعتادوا، منذ سنوات، أن يُمضوا فيه قسطا مُهمّاً من مساءاتهم. قبل أن يستدير، سمع الجملةَ بوضوح. تلعثمَ الصّديق وحاول أن يُفهمه أنه يتحدّث عن شخص آخر؛ لكن الطيّب، الذي فهم كل شيء من لغة عينيه، تأبّط محفظته دون كلمات وعاد من الزقاق الضيّق دون أن ينبس بكلمة. انتهت صداقتهما عند تلك الجملة. الطيب يتوقع أيّ شيء من أصدقائه وخلانه إلا أن ينعته أحدهم بالجنون..

عندما خلا إلى أوراقه في تلك الليلة جافته الكلمات. لم يستطع أن يخُط جملة واحدة. فقدَ صديقا كان يُعزّه. كانت ليلةً للحزن؛ أدرك الطيب ذلك، فلم يُلحّ في مُطارَدة الكلمات ولا الأحداث والأشخاص والوجوه. فصلٌ آخرُ من مسلسل الخيبات يُكتَب؛ ليلة كئيبة إضافية في حياة قلّل أفراحَها توالي الهزائم. غُرباءُ نحن ونزيدُ بعضَنا غربةً وغرابة.. فكـّر الطيّب شاردا. احتسى نصف إبريق من القهوة السّوداء دون أن يُفلح في خط سطر واحد. سينتظر هذا الفصلُ الحزين طويلا حتى يسلو الطيّب وتطيب خاطره قليلا. حين تهزمُك الصّداقة يلزمُك نفَس طويلٌ كي تستمرّ في الحياة؛ فما بالـُك إن أرغمتك الحياة على أن ترويّ حكايةَ هزيمتك وتُدوّنها!..
أليس لهذا الغرض نذرتَ حياتك، يا الطيّبُ، والأزمنة غيرُ طيّبة!؟ أليس لهذا الغرض لا تـُفارقك محفظة أوراقك، “المُهمّة” إلى حدّ أنّ الحياة لا تتكرّمُ عليك إلا بمُؤلِم الصّفعات ومسمومِ الطّعنات؟ فاكتُب الليلةَ أو في الليلة الموالية؛ بعد أسبوع أو شهرَين. اكتـُب وقتما شئتَ، لكنْ… لا تتمادَ طويلا في الحزن والامتناع عن التدوين؛ قد لا تـُسعفك بكثير من الوقتِ، حياتـُك البئيسة، قبل أن توجّه لك الصّفعة المُوالية، فالتي تليها.. لا تدَلـّلْ كثيرا وترغبْ عن الكتابة؛ قد تتراكم عليك النّكبات وتتزاحم تفاصيلُ الأوجاع وتعسُر لحظاتُ القبض على أول الحكاية. دَوّنْ ودوّنْ ثم دَوّن، ولو ملامحَ البدايات. احتفظ بمخطوطاتك، المُهمّة لديك، الغريبةِ لديهم؛ سيأتي يومٌ تفقد فيه كلُّ متع الحياة لذتها في نفسك الجريحة ولا تبقى لك غيرُ متعة الكتابة!

غريباً يجدون الطيب، بعضُ مَن عرفوه عن قرب؛ لكنْ أيضاً غيرَ محظوظ بما يكفي كي يُحقّق هدفه الذي لا يقلّ عنه غرابةً. لم يُسعفه حظّـٌ في صحّة ولا مال ولا حتى أصدقاء! لا يطلب الكثيرَ من الحياة، الطيّبُ، لكنْ لم يحظ ولو بالقليل ممّا يطلب؛ لا أصدقاء وفَوا ولا خليلة؛ لا أحلام تحققت ولا هدف، لا صحّة ظلت ولا مال تراكَم؛ فيكف لا تقصُر مساحة الفرح وتضمحلّ فسحةُ الأماني!؟

رغم كل ذلك، استطاع، أخيراً، أن يُحقـّق أمنيته التي كرّس لها حياته. فهمَ ذلك الكثيرون ممّن عدّوه، ردحاً من الزّمن غيرِ يسير، غريبا يطارد هدفاً أغرب. فهموا ذلك حين غاب، فجأة، عن الحيّ دون أن يعرفوا وجهتَه ولا كم ستطول غيبتُه ولا لأجل ماذا هجر الحومة واختفى عن الأنظار وهو لم يُشفَ بعدُ من مخلفات حادث السّير المُروّع..

بعد شهر من الغياب، رآه بعضُهم في الدّرب مُتأبّطاً محفظة وحقائبَ بلاستيكية. دلف إلى المنزل صامتاً في ليلة أحد أيام نهاية الأسبوع.

-لا شكّ في أنه حصل، أخيرا، على وظيفْ، هذا المتعوس..
قال بّا حْماد لجاره سّي إبراهيم، وهو يتكئ على واجهة دكـّان الأخير، مُدنيا منه ما أمكنه أذنه العليلة التي لم تعد تُسعفه في سماع ما يقال بالوضوح الكافي.
-العلمُ لله أبّا حْمَاد؛ هادي مُدّة ما باقي شفتو، وْالله إلى نْسيتو كاعْ.. إيوَا الله يْسهّل عليهْ؛ يْستاهلْ، مْسكين، راه تّكرفسْ حْتّى هو، المزعوبْ.

سمعهما الطيِّب وهو يقف غيرَ بعيد، مُتظاهِرا بتشديد قبضته على حقائبه البلاستيكية. منذ جملة ذلك الصّديق، الذي كان، والـّتي سمعها بالصّدفة، لم يَعُد الطّيب يعدم وسيلةً ليسمع ما يُقال عنه. صار يضع في اعتباره أنّ أيَّ حديث هامس في حضرته هو عنه؛ تأكدَ له شكّه هذا مراراً. أمّا إذا مال شيخٌ على شيخ وهمس في أذنه وقد رأياه فلا يمكن أن يقولا إلا عنه.. أدار المفتاحَ في باب البيت الصّامت ودلف إلى الدّاخل، تسبقه لهفةُ ثلاثين يوماً إلى عصفور صغير وعصفورة.

في اليوم الموالي، استفاق على وقع حركة صاخبة في البيت. تغادر جارةٌ لتدخل أخرى؛ لكلّ واحدة عذرٌ وسبب لتبرير الزّيارة الصباحية، بين مَن تطلب حفنةَ ملح أو فَصّ ثوم أو قبضةَ نعناع؛ بعضهنّ اصطحبن أبناءهنّ وبناتِهنّ. أحدَثَ أولاد الحُومة في فناء البيت العتيق، وخامسُهم مهدي، ضجيجاً حرمه من مواصلة “موته”، كما تقول زوجته في وصف نومه.

-عُد إلى مِيتتك إن شئت، أعرف ماذا جاء بهنّ جميعاً؛ إنهنّ لا يُردن ثوما ولا خَلاّ، يُردن أن يعرفن أين كنتَ طوال هذه المُدّة.. لكنْ من الأفضل أن تقوم؛ فالصّغير غادر سريرَه اليوم مبكرا وهو ما ينفكّ يسأل متى ستستيقظ؛ انتظرَك طويلا في الليلة السّابقة، لكنّ النوم غلبه قبل وصولك بلحظات.

قالت وهي تـُزيح ستارة الغرفة جانباً. تسللت أَشعّة الشّمس يسبقها ضوءٌ أبهر عينيه، فشرع يفركهما ويتمطى بكسل فوق الفراش العتيق.

-قولي لهن إنّني كنتُ أتابع علاجاً في مستشفى بعيد! فيمَ سيُفيدهنّ أن يعرفن أين كنتُ وماذا كنت أفعل؟ يا لَتخلفنا المستفحل! متى نتعلم أن نهتمّ بما يعنينا فقط!؟

حين غادر الطيب، في ساعات لاحقة، البيت الخلفي، في الحيّ الخلفي، لاحظ أعناقاً اشرأبّت من نوافذ بعض البيوت الواطئة. عرّج يميناً ثم استدار يسارا وواصل في اتجاه المقهى. كانت أخبارٌ قد سبقته إلى هناك.

-أسيدي مْباركْ ومْسعود الوظيفة الجّديدة، وْالله حْتّى تستاهْل كلّ خيرْ.. بشحالْ تيخلّصوكُم بْعدَا؟ ياكْ ما غيرْ “السّميكْ”؟ دْخلتِ بْكونكورْ وْلاّ مْعرْفة؟…

سأله عمر، النادل، وهو يضع فنجان النّص نص أمامه. تطلّعَ إليه الطيب بابتسامة مُلغَزة. تناول الملعقة وراح يُحرّك قطع السكر الثلاث في قعر الكأس. ضحك في قرارة نفسه من هذه الرّادارات المنصوبة في الدّرب، والتي لا تنقل بالضّرورة أخبارا صحيحة. وكيف تنقل أخباراً صحيحةً شفاهٌ راعشة وآذانٌ عطّلتها العِلل وآفاتُ أرذل العمر؟ أيّ وظيفة هذه التي تتحدّثون عنها؟ سأل الطيّب نفسه وهو ينفث دخّاناً كثيفا، وقد علت وجهَه الشّاحب ابتسامة شامتة.

على سطح الكأس أمامه أخذته الدّوامة، ليستعيد شريط الأحداث منذ غادر الحيّ قبل ثلاثين يوما دون أن يخبر أحدا غيرَها عن وجهته. هل أنتم مُهتمّون بي إلى هذا الحدّ دون أن أدري؟ إذن، شكرا جزيلا على اهتمامكم، لكنّي لم أصرْ موظفا، براتب سَميكٍ ولا بـِ”سْميگْ”؛ لقد حصلتُ على ما هو أهمّ من مجرّد وظيفْ؛ لو تدري آفاق تنبّؤاتكم القاصرة؛ قد خطوتُ الخطوة الأولى في درب تحقيق هدفي الأزلي؛ أيَذكرُه أحدُكم، هدفي القديم والوحيد؟!..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *