عبد الرزاق بوتمزار -le12.ma

 

اليوم الأول

التّاسعة صباحاً.. تُخرس صوت المنبّه وتُعيده إلى مكانه، بعيدا عن الوسادة.
تقطع الدّرب الطويل صعودا نحو السّور العتيق. في الدّرب، قليلون ممن تصادفهم في العادة قد استيقظوا.. أجواءٌ ما تقول رمضان. تتحسس جيبَيْك لتتأكّد من أنك قد تركتَ، فعلاً، علبة السّجاير في مكانها هناك، قرب الوسادة الخالية. تتأكد من ذلك كي لا تُشعل، سهواً، سيجارة في أول أيام رمضان وتصيرَ حديثَ الحيّ في هذا اليوم الاستثنائي.. تضحكُ من الفكرة وتواصل خطواتك الوئيدة تحت سياط شمس تشي بيوم مُلتهب.

السّْويقة ناعِسة. تستقبلك رائحة النّعناع النفاذة. فقط الخضّارون الحاذقون كانوا قد فتحوا محلاتهم الصّغيرة في الزّقاق الطويل الضيّق. تعليقاتٌ هنا وضحكاتٌ هناك. الرّوائح قويّة وواضحة تُعطيك فكرة عمّا يوجد في كلّ حانوت دون حتى أن تنظر إلى داخله.. تُراوغ بعض الأجساد المُترنّحة و”جيگُوات” اللّحوم التي أخذت تتدلّى تباعاً من حوانيتِ الجزّارين. العُبوسُ هو الغالبُ على الوجوه. تلفّ إلى اليمين، ثمّ إلى اليسار، ثمّ إلى اليمين؛ يساراً ثمّ يميناً.. كلامٌ قليل، حركات ثقيلة، أجساد مترنّحة..

يلفُظك السورُ العتيق. الكرة الأرضية، الـدّار البيضاء في أول أيام رمضان. حركة السّير ليستْ بالحدّة المعهودة؛ رغم ذلك، حذار وأنتَ تقطع شارعاً فـي العاصمة الاقتصادية!

تدلفُ إلى “القسم” وتجلس إلى مكتبك وقد ألقيتَ تحية الصّباح. تُشعل الجهاز وتشرع مباشرة في العمل. لا كأسَ قهوة مع قطعة “البّانْ گْريّي” ولا كوبَ العصير، الـّذي اعتدتَ أن “ترتشفه” بـ”الپّايْ”، مُحدثا صوتاً مستفزا، وأنتَ تتطلع إلى وجوهِهم، ترى ضحكاتهم وتسمع تعليقاتهم.. ولا حتى سيجارة الصّباح، وما أدراكَ ما سيجارة الصّباح قبل أن تشرع في عمل “يوميّ”.

ملفّاتٌ ومواضيع كثيرة في انتظارك. مِن أين تبدأ؟ مِن “اليوميّ” أمْ مِن “الفْريگُو”؟.. ما عليك إلا المُوازَنة بين الاثنين، حسب الطلب. بعد جولة سريعة فـي موادّ الصّفحة والتأكـّدِ مِـن أنّ المطلوبَ منكَ في “فسحة رمضان والصّيف” مُنجَز، تعـود إلى اليـوميّ.. وبين هذا وذاك، لا بأس، طبعاً، في إلقاءِ نظرة على الأثير والرّد على تحية هنا أو تعليق هناك..
بعد لحظاتٍ، يرتفع الإيقاع ويشتدّ اقتراب صهدِ “البُوكْلاجْ”..
آهٍ، يا سيجارة! كـُنتِ لتُخرِسي أصواتَ هاذي المَطارقِ النـّازلة عـلى “عُرُوقِ” الدّماغِ بضرباتٍ مُوجعة متتاليّة..

أخيراً، تمرّ لحظاتُ “العصب”. تهـدأ الأجواء مُجدّداً ويعُود كـُلٌّ إلى عمله الرّوتينيّ استعداداً لليوم الموالي من يومياتِ مِهنـةٍ ليستْ ككـُلّ المِهـن. تـحرص على أنْ تملأ “الثـّلاجة” بأكبر قدْر مُمكن، ثمّ تغادر المكان وأنتَ لا تلوي على شيء…

الثالثة وخمسٌ وثلاثون دقيقة. فارقٌ زمنيّ كبير يفصلك عن المغرب. تستخرجُ عـادة سنوية مِـن دولابِ وحدتِك القاتلة: النّوم نهاراً.. ياهْ! منذ رمضان الماضي لم تُتَح لك فرصةُ قيلولة. تُحْكمُ إغْلاقَ الباب والنافذة. تستلقي فوق السرير، في جوفِ غـُرفة صامتة في حيّ خلفيّ.. يقترب الكرى بسرعة غير اعتيادية من الجفنين…

حركةٌ وضجيج، فوضى أصوات متخاصمة.. يتسلـّل الجميع عبر نافذة الغرفة العُلوية، التي بقيتْ مُشرَعة على الـزّقاق الخلفي. تـفركُ عينيك وتنظر إلى ساعة الهاتف. تدور دورة كاملة في مرقدكَ وتتمطّى وتعود إلى جولة إضافيةٍ مِن… النوم. آه، كَم يلزمُك من النوم جسدي المسكين!..

تشتدّ الفوضى في الشارع. تفتح عينيك. السادسة وأربع وعشرون دقيقة. تغادر نحو الصّنبور. تترُك قطرات الماء تمارس هوايتها في إخمادِ صهد الذات في يومٍ أولَ مِن رمضانَ يُعلنُ نفسَه شهراً ساخناً بكيفية غيرِ اعتيادية.

تنزل الأدراج. تلفّ إلى اليسار، تقطـع الدّرب الطويل صعوداً نحو السْـّويقـة. وجوهٌ ضاحكة وأخرى عابسة. خليطـٌ من البشر، بين الطـيّب المتسامح والمتجهّم، المستـعدّ للخصام وكلامٍ “آخَر”، لسببٍ ولغيرِ سبب. تسأل عن أثمنة بعض “الموادّ”..

مُلتهبة هاذي الأسعارُ، تقولُ لنفسك لكَ وأنتَ تغادرُ السّويقة، تتأبّط قارورة الرّايْب وكيلُو بْرقـُوق.. ليس الجـو وحده المُلتهبُ في أولِ أيامِك يا رمضانَ!

تجلس إلى طاولة بدتْ لك صائمة… ليس فيها سمك ولا حولها وجوهُ أحبّة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *