وحيد خوجة*

 

مهداة إلى شعب السودان الودود الثائر..

غشت 1981. حطت الطائرة التابعة لشركة النقل الجوي السويسري على مدرج مطار الخرطوم قبل منتصف الليل بقليل. طائرة تشبه بكثير طائرات الشحن العسكري. انفتح الباب الخلفي. حرارة الجو تجعلك تحس بأن رأسك غارق في بركة ماء. سألت المضيفة عن موعد عودة الطائرة. كدت أستعطفها لأعود للتو من حيث أتيت بسبب الحرارة التي لا تُحتمل. في المطار استقبلني رجل ودود مرح، امتطينا سيارة أجرة، قصدنا فندق السودان، على ضفة النيل الأزرق.

الخرطوم ملتقى النيلين، الأزرق والأبيض، مدينة ثلاثية الأضلاع (الخرطوم بحري، الخرطوم، أم درمان) في هذا الملتقى مسجد توحي هندسته الداخلية بأنه من ترتيب أيادي صناع تقليديين مغاربة. وصلت الفندق بعد منتصف الليل. لا أحد في المدخل إلا رجل يلبس عباية بيضاء وعلى رأسه عمامة. استقبلني بترحيب شديد. أدخلني إلى مطعم ووضع أمامي أطباقا، فهمت بعد ذلك أنني آخر من التحق من النزلاء إذن علي أن آتي مضطرا على كل ما تبقى في المطعم من أكل. التهمت حساء العدس وطبق لحم العجل البحري، قبل أن ألتحق بغرفة نومي. عاد إلي النادل وسألني هل تريد عسكريم؟

لم أفهم ما يقصد، فالعسكري عند السودانيين والمصريين قد يكون حسب الأحوال شرطيا أو دركيا أو جنديا، سألت نفسي ما دخل العسكري بالفندق والعشاء؟

الخرطوم عاصمة السّودان ينساب الماء في نيلها على طول السنة. في غشت يرتفع منسوب المياه مما يلحق عطبا بآلات تزويد الكهرباء، فتتعطل وتتعطل معها المكيفات وأنوار الشوارع.

في القرن الماضي عرف السودان سلسلة من الأحداث جعلت هذا البلد العربي الإفريقي يقع بعد استقلاله في قبضة العسكريين والإخوانيين بعد ذلك، والذين تسببوا في ويلات ما زالت مستمرة إلى اليوم. وتُستثنى من هذه الحقبة فترة عرفت حكم سوار الذهب، الذي قاد انقلابا ضد النميري في أواسط الثمانينيات، لكنه زهد في الحكم وسلم الكرسي كما وعد بذلك سنة بعد الانقلاب للمدنيين وعاد من حيث أتى واعتزل السياسة وتعاطى للدعوة..

النميري، الذي كان جاثما على كرسي الرئاسة بعد انقلاب عسكري في ماي 1969، عقد تحالفا مع الإخوانيين يقضي بتطبيق الشريعة الإسلامية في كافة السودان، بشمالها وجنوبها. وما زال السودانيون يتذكرون أحداثا أصبحت نكتا تُحكى في المجالس. من بين هذه النكت أن جعفر النميري، الذي أصدر قانونا يمنع بموجبه استهلاك الخمور، بلغ إلى علمه أن مواطنين يقومون ليلا باحتساء أنواع الخمور على ضفاف النيل خلسة، فقرر أن يتخفى في شخص صياد بحري. ركب قاربا وطلب من صاحبه أن يقطع به النيل إلى خرطوم بحري. كان صاحب القارب يتناول الخمرة خلسة. ملأ كأسا وأعطاه للنميري. لما توسط المركب المسافة بين الضفتين قال النميري لصاحب المركب أوَلم تتعرّفني؟
قال صاحب المركب، دون أن يلتفت إليه: ومن تكون؟ قال أنا الرئيس النميري! ضحك صاحب المركب وقال: لم تشرب يا صاحبي سوى كأسٍ واحدة واعتقدت أنك النميري، فكيف كان سيكون حالك لو أخذت الكأس الثاني؟ إذن لكنتَ قلت لي إنك جمال عبد الناصر!..

الشعب السوداني شعب مثقف. أعطى الكثير من الأسماء للشعر العربي، كمحمد الفيتوري، وللرواية العربية، كالطيب صالح، وقفت ظهر يوم جمعة، وهو يوم عطلة أسبوعية، في حديقة الحيوان على ضفاف النيل. وسط الحديقة تجمهر الناس، كبارا وصغارا، حول شامبانزي يبدي من الخفة والذكاء ما يجعله مقصد الزوار بامتياز. رجل في الأربعينات يسأله ابنه عن ماهية الحيوان الذي حظي بكل هذا الإقبال. أجاب الأب دون تردد: حرام عليك إنه جدك، أولا تتذكر ما قاله دروين؟!

الحرارة مفرطة، الضوء منقطع، يستعين النادل بمحرك كهربائي يحدث صوتا يمنع من النوم. نظرت إليه وترددت في أن أسأله عن علاقة العسكري بوجبة العشاء وكدت أسأل عما اقترفت يداي من ذنب حتى أستحق أن يلجأ إلى العسكري لمعاقبتي. في لحظة، قررت أن أغامر. أجبته بصوت كله ثقة في النفس. طيب، آتني به، ثوانيَ قليلة عاد إلي وهو يحمل كأسا لم أكتشف ماهيته إلا بعد أن تناولت ملعقة منه. فهمت أن المسكين كان يقترح علي “أيس كريم”، لكن السودانيين الطيبين ينطقونها “عسكريم”.

بهو الفندق فارغ تماما. مياه النيل تنساب في هدوء. صوت المطرب سيد خليفة ينبعث من مذياع قديم: “إزيكم أنا لي زمان ما شفتكم”.

***

*كاتب مغربي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *