ناظم عودة*
ظهر زعيم “داعش” الإرهابي، أبو بكر البغدادي، بلحية مُخضبة بالحناء اقتداء بعادات “السلف الصالح”، وإلى جواره عدد من المُلثّمين. وهم بطبيعة الحال، أذرعه الإرهابية. ومهما يكن، فإن ظهوره ليس ظهورا بمحض إرادته، وإنما هو مجرّدُ بَيْدق بيد لاعب كبير، لاعبٍ براغماتي يسعى إلى الابتزاز السياسي والعسكري لتحقيق مصالحه الكبرى.
البيدقُ واللاعبُ يُذكّرانني بقصيدة غوته “صبي الساحر”، التي هي في الأصل حكاية إغريقية قديمة. ولقيمتها الرمزية، أنتجتْ “ديزني” فيلما مستوحى من أجوائها وأنتجَ الموسيقار الفرنسي بول دوكا عملا موسيقيا يحاكيها. فقد كان الصبيّ متدرّبا يتعلم لدى الساحر أصولَ السحر. فتعلّم بعضا من الصنعة. وفي أحد الأيام، غاب معلّمُه عن المنزل بعد أنْ كلّفه بملء أوعية الدار بالمياه. نقل الصبي المياه من النهر، لكنّ الإرهاق أصابه، فأراد أن يجرّب إحدى الطرق السحرية لمساعدته في ملء الأوعية والجرار والأحواض. فطلب، بطريقة سحرية كان قد تعلّمَها على يد أستاذه، من المكنسة أنْ تجلب المياه، فقامتْ بذلك بسرعة فائقة. ولما امتلأت الأوعيةُ والأحواضُ وفاضتْ الدارُ، أمرَ المكنسةَ بأن تتوقفَ عن ذلك. لكنها ظلتْ تمارسُ عملَها بسرعتها الجنونية. نسيَ الصبي التعويذة وكلمةَ السرّ التي تُوقف المكنسة. فضربَها بالفأس ضربة قوية شطرتْها شطرَين. فصارَ كل شطر يجلبُ المياه بسرعة مجنونة. فامتلأت الدارُ بالمياه وفسدَ كل شيء وشعرَ الصبي بالارتباك والعجز. ولما عاد الساحرُ المعلّمُ توسلَ إليه الصبي أنْ يوقفَ المكنسةَ، ففعلَ بعدأن وبّخه وطلب منه أنْ يعرفَ إمكاناته وقدراته جيداً.
وبصدد البغدادي، المنشطر عن مكنسة القاعدة، نتساءلُ: هل خرجَ الأمرُ عن طَوْع القوى التي أوجدت المنظمات الإرهابية، بدءا من القاعدة، وصولا إلى داعش، فانشطرت القاعدةُ إلى قواعدَ بتسميات مختلفة؟ وصار الأمر بالنسبة إلى هذه القوى الخالقة، كمن يُدخل يدَه في جحر الأفاعي. وحيثُ انقلبَ السحرُ على الساحر، عندما ضربَ الإرهابُ جميعَ اللاعبين الكبار الذين يحرّكون بيادقَ الإرهاب فوق رقعة الشطرنج/ العالَم، فهل اللاعبون في ورطة أمْ لا تزال في اللعبة منافعُ شتى؟
اليوم، يخرج البغدادي من قمقمه الذي يعرفه اللاعبون الكبار تمامَ المعرفة، بوسائلهم التكنولوجية التي تعرفُ دبيبَ النملة، لكنها تريد أنْ تُبقي على شعرة معاوية لغاية في نفسها وليس في نفس يعقوب. فما المصلحةُ الأعظم التي تجعلها تمتنعُ عن القضاء عليه وتدميره تدميرا جذريا؟ الجواب، كما يبدو لي، هو أنّ هذه الدولَ التي تتعملقُ قوة واقتصادا، وجدتْ في إيديولوجيا الإسلام إداة ثلاثيةَ الأبعاد:
-لتدمير البلدان العربية الإسلامية بيد أبنائها، لدفع أيّ تهمة عنها بأنها ارتكبتْ جرما قانونيا خارجَ اعتبارات القانون الدوليّ في تدمير هذه البلدان؛
-لتكريس صورة الإرهاب وكأنه طبيعة متأصّلة في الذات العربية. والمثالُ الذي تضربه، طبعاً، هو ما يجري في هذه البلدان من أعمال تخريب وفوضى وقتل وجهل، واستعمال ذلك مسوّغا مماثلا لمسوّغ الاستعمار الحديث للبلدان العربية. الاستعمارُ غايتُه الهيمنةُ المباشرةُ، في حين أنّ اللاعبين الجدد غايتُهم الهيمنة عن بُعْد؛
-كنتيجة لكل ذلك، خلْقُ مجال حيويّ لاقتصاديات اللاعبين الجدد: تصدير السلاح، والبضائع الاستهلاكية، وإعادة البناء وسوى ذلك؛ ناهيك عن الأموال الصافية التي تحصل عليها من الابتزاز السياسي، كما فعل ترامب في ابتزاز دول الخليج ماليا.
إنّ بقاء الفوضى والحرب والإرهاب في هذه الدول هو بمثابة منجم للذهب والألماس لدول اللاعبين. وسيبقى الإرهاب ينشطر على نفسه كمكنسة الصبيّ الساحر حتى يوقفَ الساحرُ الأكبر/ المعلّم هذا الانشطارَ، ليعمّ السلام. ولكنّ هذا يبدو بعيد المنال في ظلّ المخيال الغربي، الذي لا يريد أن ينسى الجرحَ الحضاريّ للمسلمين الذين دخلتْ حوافرُ خيولهم قلبَ أوربا. ولذلك، وهم الأذكياء، استغلوا جهلَ العرب بدينهم وبأنفسهم ووظفوه في عمليات التدمير الذاتيّ لهم ولأوطانهم.
الأموال الضخمة، والمعلومات والدعم اللوجستيّ التي تحصل عليها الجماعات الإرهابية تتجاوزُ قدراتها، من جهة، وحتى قدرات العرب أنفسهم.
والسؤالُ الجوهريّ هو: متى يعي العربُ أنهم في طريقهم إلى الاندثار والزوال إذا ما بقوا يتناحرون ويتقاتلون في ما بينهم شِيَعاً وطوائفَ؟!