جواد مكرم
نبّه حكيم بن شماش، رئيس مجلس المستشارين، إلى مخاطر تراجع منسوب الثقة في النظام الديمقراطي وتنامي خطر الشعبوية، مؤكدا استنادا إلى نتائج بحث صدر بداية نونبر الماضي، أن 46 قائدا أو مجموعة شعبوية قد وصلت إلى الحكم في 33 بلدا ديمقراطيا منذ 1990.
وقال بن شماش، في مداخلة قدّمها أمس الاثنين باسم الوفد المغربي، في الحوار رفيع المستوى لرؤساء البرلمانات المشاركين في الجمعية الـ140 للاتحاد البرلماني الدولي في الدوحة، إن تفعيل وتوسيع نطاق الديمقراطية التشاركية يبقى هو السبيل الناجع لإعادة الثقة في النموذج الديمقراطي، الذي تعرض لهزات بفعل تنامي الشكوك حوله وتزايد حالات عدم اليقين. وأضاف بن شماش أن من بين تجليات أزمة الثقة في النموذج الديمقراطي بروز ظاهرة “الشعبوية”، التي ما فتئت تتمدد جغرافيا وأصبحت تمتد إلى مناطق ما كانت أبدا محط شك في هذا المجال.
وأبرز رئيس مجلس المستشارين أن خطر المساس المستدام بالمؤسسات الديمقراطية ودولة القانون يكون أكبر في ظل إمساك الشعبويين بدفة الحكم، مشيرا إلى استمرار خطر الشعبوية وأن القادم أسوأ.
ووضح بن شماش أن الأخطار الناتجة عن الشعبوية، باختلاف تمظهراتها، لا تتمثل فقط في الأذى المبرمج الذي يلحق النظام الديمقراطي في جوهره واشتغاله، بل كذلك في الأضرار التي تلحق الفضاء العمومي والمجتمع بأكمله، والمتمثلة في تشجيع النزعات الانكفائية واستشراء الانشطارات المجتمعية وتسويغ النزعات العنصرية والعنف والإقصاء، بل وفي إذكاء التوترات الخارجية، وبالتالي تعريض السلم الدولي للخطر.
وشدد رئيس مجلس المستشارين على أن معالجة الاختلالات المرتبطة بتدني الثقة في النموذج الديمقراطي والحد من تنامي تمدد الشعبوية تقتضي الإنصات إلى صوت المواطنين المعبر عن انتظاراتهم وطموحاتهم، سواء في مجال التمثيلية أم في مجال الالتزام بالأولويات المجتمعية.واستعرض في هذا المجال تجربة مجلس المستشارين، الذي لم يعد يكتفي بأداء وظائفه التقليدية في مجال المراقبة والتشريع، بل أصبح يتبنى وظائف جديدة، تستند إلى احتضان النقاش العمومي حول مختلف القضايا الحيوية التي تشغل بال المواطنين والمجتمع والفاعلين.
ووضح بن شماش أنه يتعين، ربما، القيام بمراجعات حقيقية يجب أن تترجم في قوانين انتخابية وغيرها، ويتعلق الأمر بطريقة انتداب النخب الحزبية وانتخاب النخبة البرلمانية، خاصة أن العديد من الانتقادات في هذا الشأن تنبني على واقع ضعف تجديد النخب وشكلية المشاركة واستمرار الوجوه نفسها وعدم الوفاء بالالتزامات.
ودعا بن شماش، في السياق نفسه، إلى فتح المجال أمام أشكال جديدة للتعبير عن الانتظارات والمطامح والحقوق.
وذكر أن نتائج العولمة على المستوى الإعلامي والتواصلي داخل المجتمعات والبلدان وما بينها وصلت حدا لم تصله البشرية أبدا في السابق في ما يتعلق بالولوج إلى المعلومات وتبادلها. وأسفر هذا الوضع عن تمدد إمكانات التدخل في المجال العمومي لمجموعات وأفراد لم تصل أبدا إلى هذا اليسر في التواصل، رغم أن هذا التواصل نفسه لا يستعمل دائما لنشر الحقائق والدفاع المشروع عن الحقوق والطموحات. وأكد أن هذا الوضع الجديد يفرض على النموذج الديمقراطي أن يجدد نفسه، ما يتطلب نفَسا طويلا وصبرا وحنكة، “حتى لا نجد أنفسنا أمام نماذج “ديمقراطية” قد تتوفر فيها الحريات وبعض مظاهر دولة القانون، في الوقت الذي يظل فيه القرار مركزا في أيدي إرادة عليا”.
وأكد بن شماش أن الديمقراطية التمثيلية، التي عُدّت مرجعيةً زمنا طويلا عن حق، لم تعد كافية أمام تطور بهذه الوتيرة. وإذا كان المطلوب هو استرداد ثقة المواطن في النموذج الديمقراطي -باعتباره أقل الأنظمة سوءا- وابتعاده عن الدعوات الشعبوية القاتلة، فلا أفضل من اعتماد إجماع مجتمعي يقنن استحداث الأدوات التشريعية (قوانين) والآليات التدبيرية (مؤسسات) اللازمة القادرة على تمكين المواطنين، على سبيل المثال لا الحصر، من المشاركة في التشريع وعزل المنتخبين والمسؤولين غير الأكفاء خلال الفترات الانتدابية نفسها، والولوج السلس إلى مراكز القرار في المؤسسات الحزبية، والمشاركة في هندسة القوانين والتقطيعات الانتخابية، وتيسير أكبر قدر من الشفافية في مجال التدبير العومي، حتى لا تبقى كل هذه المجالات حكرا على نخبة مغلقة لا تجدد نفسها ولا تصنع سوى توفير شروط الاحتقانات المؤدية إلى الهزات المقلقة.
ونبه بن شماش إلى أن أخطر ما يمكن أن يهدد مستقبل النموذج الديمقراطي هو نسيان التجارب التاريخية السيئة التي تَمكّن خلالها أعداء الديمقراطية من الوصول إلى أعلى مؤسساتها من أجل وأدها لا تطويرها. كما أن هناك مسؤولية كبرى على عاتق الدول المؤسسة للنموذج الديمقراطي في المنافحة عنه اليوم بقوة في وجه الدعوات المشككة والنكوصية. وقال إن من يراقب التحولات المسجلة في العالم عموما لا بد أن يسجل، بقلق، عددا من الظواهر السلبية، الجديد منها والقديم، التي لم تتوفق التحولات في وضعها على السكة الصحيحة، والتي من شأنها إرباك حتى أكثر المشاريع الديمقراطية جدية وعزما. وأشار في هذا الصدد إلى استمرار تراكم المعرفة والثروة والنفوذ في مناطق دون غيرها من المعمور، ما يعزز الاعتقاد بأن العالم يعجز تماما عن إنشاء منظومة أكثر عدلا بين شعوب وبلدان الأسرة الدولية.
وأشار بن شماش، أيضا، إلى استمرار التوترات الجيوسياسية واستحداث غيرها وتفاقم ظاهرة الهجرة السرية كنتيجة للتوترات الجيوستراتيجية والحروب الأهلية المحلية، إضافة إلى تفكك الاقتصاديات الوطنية وارتباك التماسك المجتمعي في مناطق عديدة من العالم، وخاصة إفريقيا. وتحدث عن تبعات التحولات المناخية المنذرة بأضخم العواقب، في ما تنكص بعض الدول الكبرى عن تحمل مسؤولياتها الأخلاقية تجاه تفاقم ظاهرة أصبحت تهدد البشرية بأكملها.. وهذه التحولات على المسرح الدولي تتداخل مع ظواهر أخرى خاصة بكل بلد على حدة، منها تنامي الطلب الاجتماعي وتصاعد البطالة، خاصة بين فئة الشباب داخل البلدان المتوجهة نحو تبني النموذج الديمقراطي، واستمرار هامشية دور المرأة وضعف إمكاناتها في الولوج إلى مؤسسات ومراكز القرار.