سواء شئنا أم أبينا فإن عزيز الفاضلي شكل جزءا من ذاكرتنا البصرية نحن جيل السبعينات. كانت السنوات سنوات جفاف وكانت النشرة الجوية موعدا مقدسا بعد نشرة الأخبار تشرئب نحوها الأعناق لمعرفة أحوال الطقس وهل ستأتي الأمطار أم لا. لذلك فهناك ما قبل نشرة طقس عزيز الفاضلي وما بعدها، في الأول كانت النشرة باردة تقدم أسماء المدن على الخريطة مرفقة بدرجات الحرارة ورسوم تجسد سحبا بيضاء وداكنة وبروق ورياح شرقية إلى غربية وبحر هائج إلى قليل الهيجان. وكان أغلب من يتابعون نشرة أحوال الطقس يفعلون ذلك لرؤية الراحلة سميرة الفيزازي بابتسامتها الساحرة ونغازتيها الجميلتين أكثر مما يصنعون ذلك لمعرفة هل ستمطر غدا أم ستبرق.

ثم جاء عزيز الفاضلي الذي اشتهر بتجسيده لشخصية”بئيس الديس”، ذلك الرجل البوهالي المولع بكرة القدم والذي يرتدي دائما قميصا رياضيا ويضع حول عنقه مذياعا على شكل حذاء رياضي، وقلب بمجيئه ذاك عالم النشرة الجوية، بحيث أصبحت الفقرة المملة حصة ضحك ونكتة، ولم يكن عزيز الفاضلي يكتفي بإعطاء حالة الطقس بل كان يقدم لحظة مسرحية بامتياز في دقيقة يبدؤها دائما بجملته التي غدت شهيرة “ها واحد السلام عليكم”.

كان عزيز الفاضلي يرتدي الجلابية الصوفية عندما كان يأتي البرد والمطر وكان يرتدي ملابس الصيف عندما يحل القيظ. ومن طريقة لباسه كنا نعرف أحوال السماء والأجواء وكيف سيكون طقس الغد والأيام المقبلة.

في المغرب، وكما قال ليوطي، أن تحكم هو أن تمطر، ولذلك فنشرة أحوال الطقس في بلد زراعي كالمغرب نصف سكانه فلاحون، مرتهن بشكل كلي لنزول الأمطار، يمكن اعتبارها أهم نشرة في التلفزيون العمومي، لأنها تعطي الأمل للناس حتى ولو لم تكن هناك أخبار سارة حول التساقطات.

وذلك بالضبط ما نجح عزيز الفاضلي في القيام به في تلك الثمانينيات المجيدة، حين دخل المغرب في سنوات جفاف طويلة تلاها تقويم هيكلي فرض على المغرب بعدما فشل في تسديد ديونه لصندوق النقد الدولي.

فكانت قفشات عزيز الفاضلي اليومية ومحاكاته للفلاحين في طريقة لبسهم وكلامهم تعطي الناس لحظات مرح مقتطعة من رحم المعاناة. وقد بلغت به الفكاهة ذات مساء أن دخل أستوديو نشرة الطقس راكبا ظهر حمار، فكان ذلك إيذانا بتحول عميق في التلفزيون وعقليات المشرفينعليه رغم ثقل سنوات الرصاص التي كان البلد برمته يرزح تحت ثقلها.

في تلك الفترة العصيبة قرر الملك الحسن الثاني بث روح جديدة في التلفزيون العمومي بعدما فقد هذا الجهاز مصداقيته، فوقع اختياره على مهندس فرنسي اسمه أندري باكار، وعهد إليه بمهمة إحداث ثورة في جهاز التلفزيون، فبدأنا نسمع عن شعار رفع في منتصف الثمانينيات يقول «التلفزة تتحرك».

وبحاسته الأمنية المتطورة استشعر وزير الداخلية إدريس البصري أن هذا “الباكار” سيشكل منافسا قوية له، خصوصا أنه كان ينفذ عددا من التغييرات في طريقة البث وإلقاء نشرات الأخبار في التلفزيون، ويتحكم حتى في ديكورات الخلفيات وراء المذيعين، ووصل به الأمر إلىدرجة الرغبة في إزالة «نافورة» تقليدية في ساحة القصر الملكي بفاس، أثناء عمل التلفزيون على نقل الخطاب الملكي منتصف الثمانينيات، ولولا أن الملك الحسن الثاني أيقظته أصوات أشغال نزع النافورة من مكانها وأمر على الفور بوقف تلك الحماقة، لتمكن «باكار» من الاستمرار في سياساته، التي كان يراها المحافظون في دار المخزن «جهلا» بالتقاليد المغربية.

كان إدريس البصري قد قرر  إزاحة «باكار» بأي ثمن، فسلط عليه زبانيته الذين جعلوه يكره الساعة التي وافق فيها على المجيء للمغرب، وهكذا استيقظ الموظفون ذات صباح على خبر مغادرة باكار المغرب نهائيا.

ورغم أن “باكار” كان قد حصل على الضوء الأخضر من الحسن الثاني للقيام بإصلاح التلفزيون إلا أن وزيره القوي إدريس البصري كان له رأي آخر، فهو لم يكن يرى فيه سوى أجنبي جاء لكي يزاحمه في عالم الإعلام الذي تسلم حقيبته وأضافها للداخلية سنة 1986. وهكذاطويت مرحلة «التلفزة تتحرك»، ولم يكتب للثورة الصغيرة التي قادها عزيز الفاضلي عبر نشرة أحوال الطقس أن تشمل بقية البرامج، فظلت دار البريهي على حالها جامدة مثقلة بالبروتوكولات المعقدة، مما جعلها مادة للسخرية السياسية، خصوصا في عروض الفنان أحمد السنوسي بزيز الذي شبهها بأداة من أدوات التعذيب الجماعي.

رحم الله الفنان عزيز الفاضلي الذي يحتفظ له المغاربة بذكريات جميلة وتحتفظ له ذاكرة التلفزيون بقصب السبق في مجال تحويل نشرة طقس عادية إلى لحظة مسرحية يومية، وعزاؤنا الصادق لابنه المخرج عادل الفاضلي وابنته الفنانة حنان الفاضلي وكل أفراد عائلته ومحبيه.

رشيد نيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *