بقلم:يونس التايب

قبل قرابة ثلاثة أشهـر، تناولت في مقالي “تأهيل التدبير العمومي وشرط الكفاءة والنفس الوطني”، الصعوبة التي وجدتها اللجنة المُشكلة تحت رئاسة السيد رئيس الحكومة، في صياغـة تصور استراتيجي “لتأهيل عرض التكوين المهني”، كما طلب ذلك منها جلالة الملك محمد السادس، خلال جلسـة العمـل المنعقدة يوم الفاتح من أكتوبر 2018.

وتطرقـتُ إلى تفاصيـل الملف والمراحل التي عـرفها، و إلى دلالات عـدم التمكن من إنجاز المهمة خلال المُهلة الأصلية، و حتى بعد نهاية المهلة الإضافية. ثم أثـرت تساؤلات الناس وتوجسهم بشأن الأسباب الحقيقية لتأخر اللجنة الحكومية في الإتيان بالمطلوب. وتساءلت كيف أمكن أن تفشل اللجنة في مسعاها بينما انطلقت في مهمة على أساس إطار منهجي واضح (Termes de références clairs)، أظهر متانة التوجيهات المقـدمة لها، و”اكتمال الخطوط الاستراتيجية لتصور سيادي بشأن محور التكوين المهني، من خلال إدراك مضبوط لنقط القـوة الموجـودة في هـذا القطاع، والفـرص الواجب استثمارها، ورصد واضح لنقط الضعف المسجلة، وفهم دقيـق للمخاطر الواجب الحد من أثـرها وتجاوزها”.

 فبينما كان المنتظر أن تبدع اللجنة، بشكل عملي و مـُركـز، يساهـم في استـدراك ما أضاعته الحكومة من زمن سياسي، و تكون البداية من خلال تأهيـل قطـاع التكوين المهني، باعتبار بُعـده الاستراتيجـي وأثره على رفع حظوظ تشغيل الشباب ببلادنا، وتقديم تصور يحقق الجودة والنجاعة في ثنايا المؤسسات المعنية بهذا الملف، لم تكن اللجنة في الموعد. وتحول الموقف إلى لحظة فشل حكومي، تأكدت معها التخوفات من أن “الفـريـق” ليس بالفعالية المطلوبة لرفع التحديات التي تواجهها بلادنا، وليس باستطاعته السير على ضوء التوجيهات الاستراتيجية لعاهل البلاد بالسرعة المطلوبة وبالاقتدار اللازم في التنفيذ.

و في الأسبوع الماضي، عاد موضوع استراتيجية التكوين المهني ليحتل المشهد، حيث تم الإعلان عن جلسة عمل جديدة ترأسها جلالة الملك، “خُصصت لبرنامج تأهيل عرض التكوين المهني وتجديد الشعب والمناهج البيداغوجية (….) استكمالا للاجتماعين السابقين المخصصين لقطاع التكوين المهني، الذي يحظى بعناية ملكية سامية موصولة، باعتباره رافعة استراتيجية للتنافسية ونهجا واعدا بالنسبة للإدماج المهني للشباب”. البلاغ الصادر بمناسبة هذه الجلسة الهامة، أخبر أن جلالة الملك دعا إلى “اعتماد مقاربة واقعية تُحـدد، بكيفية صارمة، الأولويات وفقا لحاجيات الاقتصاد الوطني وسوق الشغل، والانتظارات الاجتماعية وتطلعات المغاربة”. كما أخبر أيضا أن برنامج التأهيل “يوجد في طور الاستكمال، وتمت بلورته طبقا للتوجيهات والملاحظات الملكية السامية”، وسيكون “موضوع عرض خلال اجتماع مقبل وأخير للجنة”. من ذلك كله، نستشف أننا اقتربنا من نهاية النفـق، و أن اللجنة بصدد الخروج منه، بعد هدر زمن مهم في الطريق.

ربما تكون مناسبة الحديث عن هذا الموضوع، فرصة لنتسائل عما أخذته الحكومة من وقت طويل لمحاولة تدبير باقي الملفات التي تناولها عاهل البلاد في خطبه السامية، والتي طلب فيها من الحكومة، بإلحاح شديد، إبداع أشكال تدبير ناجع لمشاكل كثيرة، والتعاطي معها بأسلوب جديد. فهل من حاجة للتذكير بكل تلك الملفات؟

هل نتحدث عن الوقت الذي أضاعته الحكومة بشأن ملف تصور “النموذج التنموي الجديد”، و كم مر من أشهر لم تحرك فيها الحكومة أوراش التفكير الجماعي والحوار الوطني، بغية استثمار ذكاء كل الفرقاء والخروج بمنتوج يعكس إبداعا جماعيا؟هل نتحدث عن ملف الحماية الاجتماعية، والدعوة إلى إبداع هندسة جديدة للتدخلات العمومية تمكن من توحيد المجهود الوطني، وتتيح التقائية ناجعة للبرامج التي تصرف عليها ميزانيات ضخمة بدون وقع اجتماعي حقيقي وعادل؟هل نتحدث عن ملف “إدماج الشباب في السياسات العمومية”، وجعلهم شركاء في الفعل العمومي، وتشجيع اهتمامهم بالشأن العام والانخراط فيه عن قناعة و يقين؟أم هل نتحدث عن مطلب رفع العوائق في وجه الاستثمار و إلغاء الممارسات البيروقراطية التي تعيقه، و تضيع على بلادنا نسبا مهمة في النمو؟أم نتحدث عن عبث تدبير ملف “الأساتذة المتعاقدين” وما ميزه من عنجهية وعناد أدّيا بنا إلى وضع المستقبل الدراسي لأبناء المغاربة على كف عفريت؟أم نتحدث عن مهزلة التعاطي الإيديولوجي مع مسألة لغة التعليم، بعيدا عن أي منطق علمي و موضوعي،  استمرار  البعض في الكذب على المغاربة و استبلادهم من قبَل أناس سجّلوا ابناءهم في مدارس البعثاث الأوروبية، أو رحّلوهم إلى الجامعات التركية والألمانية والكندية، وأقسموا أن يقيموا الحجر على أبناء الشعب من خلال منعهم من تعلم العلوم بلغات عالمية؟..

لن أتحدث الآن عن كل هذه الملفات، وسأترك الخوض فيها لمقالات قادمة. فقط، أسجل معكم كيف أضاعت علينا حكومة “الأغلبية المتنافرة” زمنا سياسيا كبيرا، لا هي استثمرته لتشتغل وتنجز مهامها على الوجه الأكمل، ولا هي سلمت بضعفها و أقرت به و التمست العون والدعم، ولا هي ألقت ما فيها وتخلت.

و مرة أخرى، يبدو أن أحد أسباب كل ما سبق هو أن الفريق الحكومي يضم “لاعبين”، ربما لديهم “كفاءات ومهارات” معينة، في “أمور معينة”، ولذلك اقترحتهم أحزابهم، ولكنهم بالتأكيد لا يحملون المواصفات المطلوبة لتدبير القطاعات التي اقُـتـرحوا لشغلها. والحالة أسوأ بالنسبة لحالة “لاعبين” في الفريق الحكومي، لا يعرف الكثير من الناس أسماءهم، يظهر أنهم في حالة “شرود مطلق”، لا حركة ميدانية ولا حصيلة ولا خروج إعلامي ولا مبادرات قطاعية.. وكأن لا علـم لهم بمتطلبات “الموقع” الذي يشغلونه في الميدان، أو لا علم لهم بخطة اللعب، أو لربما هم غير واعين أصلا أن المباراة قد انطلقت!

إن استمرار هذا الوضع، سيبقي حالة الضعف والارتباك التي تعاني منها مجموعة من القطاعات، وسيستمر نقص الفعالية، وستظل جودة الخدمات التي ينتظرها المواطنون دون المستوى. ناهيك عن الأثر السلبي الكبير على الاقتصاد  الوطني، وعلى التماسك الاجتماعي، وعلى التوازن المجالي، وعلى تفعيل الأوراش الكبرى، وعلى تنزيل ميثاق “اللاتمركز الإداري”، وتعزيز الجهوية المتقدمة، وتشجيع الاستثمار.

ويجب الاعتراف أننا أمام حالة لا نحسد عليها، تتميز بكون الفريق الحكومي، الذي يستند إلى “شرعيته” الانتخابية، هو فريق بأداء غير فعال و غير متجانس بالشكل اللازم. كما أن غياب الثقة بين أحزاب “التحالف الأغلبي” يزيد الوضعية تعقيدا.

ولكوننا لم نعتمد كامل الآليات المؤسساتية التي تساعد على تقييم السياسات العمومية، وتجعل ذلك ممارسة عادية تؤدي إلى استخلاص للنتائج، وتقويم لما يستحق التقويم والتصحيح من سياسات وبرامج، فليس من السهل اتفاق جميع الفرقاء على أن ضعف الأداء في قطاعات معنية، يجب أن يتم تحميل المسؤولية السياسية فيه إلى الطرف الذي يدبرها، بعيدا عن أي خوف من الأثر الانتخابي أو مراعاة “للخواطر”.

ولكون الفاعل الحكومي لا يبدو مهتما بمسألة التقييم الجدي لسياساته، حيث أن من الوزراء من أصبح متخصصا في تمثيل دور المهووس بالدفاع عن “الحصيلة”، وتوقع فوز الحزب الحاكم في 2021، متجاهلا “الحصلة” التي وضعتنا فيها سياسات الحكومة، لا يمكننا بتاتا أن نتوقع مبادرة شجاعة يقودها رئيس الحكومة، وهو المسؤول الأول عن تدبير القطاعات الإدارية  المؤسسات العمومية، بحسب الفصل الـ89 من الدستور، يعلـن من خلالها تسجيله لخلل هنا أو تقصير هنالك، ويبادر إثر ذلك إلى رفع ملتمس بتغيير “لاعب سيء” واقتراح تعويضه.

ولأن كل ذلك ليس واردا حدوثه، فإن الوتيرة العامة ستبقى بطيئة، وسيظل الإيقاع متواضعا، وستظل المردودية رديئة. فهل علينا القبول بهذا الواقع و الاستكانة إلى صمت متواطأ نستمر خلاله في “فرجة بئيسة” محورها “دراما” تدور حول “شخوص” أبانوا عن “ذكاء ماكيافيلي” في تحقيق مكتسبات حزبية، وهمهم الأول أن يظلوا في مناصبهم وكفى؟

هل من الصواب أن تغرق القوى الحية في مشاكل جانبية تافهة، وتترك المواطنين يواجهون معاناة مستمرة من أثر نقص  ضعف الخدمات العمومية في عدة مجالات، نتيجة معضلة سعي بعض الأطراف، بشكل غير “غيـر معلن”، إلى تسفيه وتمييع التدبيـر العمومي في إطار منطق “خليها تخماج”؟..

أظن أن علينا كمواطنين غيورين على بلدنا أن نحرر أنفسنا من رتابة الفرجة والسلبية والعدمية واليأس، كما على نخبتنا الفكرية والسياسية و المدنية، أن تتجاوز بسرعة حالة “شبه شلل”، غرق فيه الجميع منذ مدة، والشروع في التفكير الجاد، والتعبئة المسؤولة، والترافع الاحترافي عن قضايا الناس، و خصوصا الشباب، وتكثيف الضغط لفضح تجليات بؤس التدبير العمومي، وإطلاق مبادرات متنوعة، تتسم بالشجاعة و الحرص، لبلورة تصورات حول ما يستلزمه الظرف التاريخي الوطني، لتنطلق في بلادنا ديناميكية حقيقية، تتفاعل بشكل جاد مع التوجيهات الاستراتيجية التي حملتها عدة خطب ملكية سامية.

وقد لاحظنا، نهاية الأسبوع الماضي، كيف دخلت إلى مجال النقاش العمومي، ولو باحتشام شديد، أفكار ومقترحات طرحها فاعلون سياسيون و إعلاميون نزهاء، حملت معها تساؤلات بشأن الممكن من تعديلات، مؤسساتية و قانونية، لاسترجاع المبادرة الوطنية، ووقف نزيف هدر الزمن السياسي قبل أن تتفاقم المشاكل أكثر مما هو الأمر حاليا، في محيط دولي متقلب و غير مأمون. وإذا كان هذا المستجد أمرا محمودا، فإن الأمل معقود على أن يتسم أصحاب المبادرات بجرأة أكبر، ويفكروا بعقلانية حقيقية وحرص متجرد من أي حسابات سياسوية، وأن يجعل الجميع مصلحة الوطن أفقا وحيدا وأوحد، لعلنا نجد طريقنا إلى توافقات جديدة تنتصر للعبقرية المغربية، وتبين تفاهة أصحاب الطروحات المغرورة والمتنطعة، وبلادة حساباتهم الضيقة.

(*) فاعل سياسي و متخصص في التدبير والحكامة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *