ليس هناك أدنى شك في أن سكان إقليم الحسيمة وكل الأطر والفاعلين والمثقفين ورجال الأعمال المنحدرين من الإقليم أو المتواجدين خارجه، وشرائح واسعة من مكونات المجتمع المغربي، يرون في جلالة الملك محمد السادس الملاذ والملجأ في هذا الظرف غير الاعتيادي الذي تعيشه المنطقة، وضامنا للمخارج التي تضمد الجراح وتعيد السكينة لنفوس مكلومة جراء تداعيات الاحتقان الذي تولد من الاحتجاجات التي طالت عددا من الأسر من خلال صدور أحكام متفاوتة المدد في حق أبنائها.
ومن هذا المنطلق، يبدو أن ساكنة الإقليم ومختلف الفاعلين ترسخت لديهم قناعة عميقة، مفادها أنه لا مناص من الاستمرار في المسار نفسه، والحفاظ على قيم ومبادئ الثقة والالتزام والاحترام المتبادل، التي شكلت الأساس الصلب للعلاقة بين المؤسسة الملكية وساكنة الإقليم، ومضاعفة الجهود لتحويل هذه الرقعة الترابية من المملكة إلى قطب تنموي متوازن ومستقر وجالب للاستثمار، ومنتج للثروة كمدخل لتوفير فرص الشغل، خاصة وأن ما يزخر به إقليم الحسيمة من مؤهلات سياحية وطبيعية وثروات في مختلف المجالات يرشحه بعد التثمين المعقلن والشفاف ليتحول إلى نموذج تنموي مثالي.
من المؤكد أن إقليم الحسيمة عرف منذ إمساك جلالة الملك محمد السادس بزمام الأمور تحولات مهمة، وتطورات ملموسة، شملت مختلف المجالات: الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية والثقافية. وهذا ما جعل المنطقة تعيش على إيقاع دينامية غير مسبوقة شدت إليها أنظار الرأي العام، وتجسد هذا بالخصوص في انبثاق دينامية انخرط فيها الجميع، بما في ذلك المجتمع المدني المحلي.
وستظل أول زيارة قام بها جلالة الملك إلى المنطقة في العام 1999، وكان لي شرف تغطيتها من موقعي كصحافي، حدثا تاريخيا بكل المقاييس، حيث خُصص له استقبال شعبي تلقائي وتاريخي لم تعرفه المنطقة من قبل، كعربون محبة وولاء ووفاء لجلالة الملك، وللثوابت التي تجمع كل المغاربة حول المؤسسة الملكية بصفتها ضامنة وحدة وقوة واستقرار البلاد.
والكل يعترف بأن فجرا جديدا بزغ، خصوصا عقب كارثة الزلزال الذي ضرب المنطقة في فبراير 2004، والذي اعتبر فرصة تاريخية نادرة لإحداث تغييرات عميقة في الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وفي البنيات التحتية.
وهذا ما عبر عنه جلالة الملك بوضوح في خطاب سامٍ وجهه بالمناسبة الأليمة نفسها، عندما قال: “من منطلق منظورنا الاستراتيجي للقضايا الكبرى للأمة، فقد أصدرنا تعليماتنا للحكومة قصد الانكباب الفوري على إعداد مخطط تنموي مندمج وهيكلي، على المدى المتوسط والبعيد، من أجل تأهيل إقليم الحسيمة وإعمار منطقة الريف”.
وأضاف جلالة الملك في الخطاب نفسه: “سنقف شخصيا، سواء من خلال المتابعة الموصولة، أو الوقوف في عين المكان، على حسن إنجاز البرنامج الاستعجالي، واعتماد المخطط المتوسط والبعيد الأمد، الكفيل بجعل منطقة الريف، التي نوليها عنايتنا الفائقة، قطبا للتنمية الحضرية والقروية في جهة الشمال، مندمجا في النسيج الاقتصادي الوطني”.
وشدد على أن يتضمن هذا المخطط “مشاريع مضبوطة في أهدافها ووسائل تمويلها، وآجال إنجازها وتقييمها، لتمكين المنطقة من التجهيزات الأساسية، المائية والكهربائية والطرقية الكفيلة بفك العزلة عنها، وربطها بالشبكة الوطنية عبر محور فاس-الحسيمة، والإسراع بإنهاء المدار الطرقي المتوسطي، مع إيلاء أهمية خاصة لتشجيع الاستثمارات والمشاريع التنموية المدرة لفرص الشغل، خاصة في قطاعات السياحة والصيد البحري، وبناء اقتصاد فلاحي عصري ومنتج”.
تأسيسا على ذلك، تسجل ساكنة المنطقة بكل افتخار ما عرفه إقليم الحسيمة، منذ السنوات الأولى لحكم جلالة الملك محمد السادس، من مشاريع مهيكلة في مختلف القطاعات، وتأهيلا شاملا استفادت منه مختلف المكونات الترابية للإقليم ومس القطاعات الأساسية كالتعليم والصحة والنقل والسياحة والفلاحة والصيد البحري والبنيات التحتية، ناهيكم عن الانفتاح بدرجة غير مسبوقة للدولة على كفاءات وطاقات من الإقليم جعلها تتبوأ مواقع متقدمة في هرم السلطات التشريعية والتنفيذية.
كما أن المشاريع المبرمجة، ضمن مخطط “الحسيمة منارة المتوسط”، تعتبر بدون شك استمرارا لهذه الدينامية التأهيلية والتنموية، التي تم إطلاقها في الإقليم لتحقيق تطلعات الساكنة إلى حياة كريمة مستقرة وآمنة.
غير أن المشاريع المعلنة والمبرمجة، رغم أن غالبيتها في طور الإنجاز ولم تصل بعد إلى طور الجهوزية الكاملة لتنعكس بشكل ملموس على الحياة اليومية للسكان، خاصة في خلق فرص الشغل، مما تولد عنه ارتباك وتوتر، بسبب الاحتجاجات الاجتماعية، التي امتدت لشهور، وما أعقبها من أجواء احتقان مقلقة، جعلت المنطقة في أمس الحاجة إلى التفاتة ملكية لتحويل ما عرفه الإقليم من مظاهر احتقان مقلقة للجميع، ساكنة ومؤسسات، إلى فصل جديد من توطيد وتعزيز الثقة والوفاء والالتزام المتبادل، فصل ينضاف إلى مسلسل المصالحة التاريخية التي طبعت حكم جلالة الملك محمد السادس، وضمدت جراحا، وأسكنت آلاما، عانت منها أجيال كثيرة على امتداد الترابي الوطني.
علما أن جلالة الملك، وبالصراحة والصدق اللذين يسمان سياسته ويطبعان الجيل الجديد من خطبه، سبق أن قال انطلاقا من الحسيمة: “إنه برغم ما بذلته الدولة للنهوض بهذه المنطقة، فإنه يتعين مضاعفة الجهود لفك العزلة عنها، والاستثمار الأمثل لما تزخر به من مؤهلات”.
إن جلالة الملك، باعتباره الساهر على ضمان احترام الدستور وحسن سير المؤسسات، وعلى صيانة الاختيار الديمقراطي، والساهر أيضا على ترتيب الأولويات الوطنية، وتحديد الأهداف الاستراتيجية للدولة، يدرك جيدا أن إقليم الحسيمة، بكل مكوناته الترابية، شكل وما زال يشكل قلعة حصينة للتفاعل الخلاق والنادر بين مؤسسة ملكية مواطنة، تشكل العمود الفقري لاستقرار وقوة المغرب وتطوره الديمقراطي، وبين ساكنة موحدة ومتمسكة بالثوابت، ومتشبعة بروح الانتماء الوطني البناء، ومفتخرة بمغربها الذي قدمت من أجله تضحيات جساما على مر التاريخ.
إن الفترات المتقطعة من الاحتقان والصدامات والصراعات التي ميزت التاريخ السياسي للمغرب، على امتداد عقود، لم تجدِ نفعا، وهذا ما دفع جلالة الملك إلى صياغة المفهوم الجديد للسلطة، الذي تبناه منذ اللحظات الأولى لحكمه، والذي حدده عندما قال في الخطاب السامي بمناسبة الذكرى السابع عشرة لعيد العرش: “مفهومنا للسلطة، هو مذهب في الحكم، لا يقتصر، كما يعتقد البعض، على الولاة والعمال والإدارة الترابية، وإنما يهم كل من له سلطة، سواء كان منتخبا، أو يمارس مسؤولية عمومية كيفما كان نوعها، والمفهوم الجديد للسلطة يعني المساءلة والمحاسبة التي تتم عبر آليات الضبط والمراقبة وتطبيق القانون”.
ينضاف إلى هذا انخراط المغرب في عهد جلالة الملك محمد السادس في مجموعة من الأوراش والمشاريع الإصلاحية، بعضها اتسم بطابع الثورية، كتجربة الإنصاف والمصالحة، التي برهن من خلالها جلالة الملك عن حس إنساني عميق، وعن جرأة سياسية وأخلاقية أصيلة غير مسبوقة في العالمين العربي والإسلامي.
إن ما حدث في المنطقة لا يجب أن يتحول إلى ألم دائم وجرح مفتوح، لأن كل المؤشرات تؤكد أن ساكنة المنطقة تتجه بكل إيمان وإصرار إلى مستقبل ايجابي واعد بالنماء والبناء والعطاء والوئام والتماسك والانسجام، وتتوجه في هذا السياق إلى جلالة الملك بنداء كله ثقة ووفاء باعتباره في موقع الأب لكل المغاربة.
وأخذا بعين الاعتبار الظروف التي أفرزتها موجة الاحتجاجات التي عرفها الإقليم، وانعكاساتها على الدينامية التنموية وإنتاجها لسلسة من المعاناة لعدد من العائلات، وتكريسا لخيار مصالحة وتصالح المنطقة مع تاريخها وذاكرتها، وترسيخا لأجواء الثقة الشاملة والأمن والاستقرار، تتطلع ساكنة الإقليم وفئات عريضة من المجتمع المغربي والفاعلين على اختلاف مرجعياتهم ومجالات أنشطتهم ومستويات تدخلهم، إلى التفاتة من طرف جلالة الملك محمد السادس المتشبع بالقيم الإنسانية والمؤمن بالتسامح والصفح الجميل، خاصة في هذه المرحلة التي تدعونا جميعا إلى التجند والتعبئة الشاملة لمواجهة مختلف التحديات التنموية ووضع بلادنا على سكة التقدم والتطور المتواصلين، وتحصين الاختيار الديمقراطي الذي لا رجعة فيه، وحماية المكتسبات التي تحققت على امتداد سنوات وتسويق المغرب كنموذج للاستقرار والاعتدال والتسامح والحرية والانفتاح والحوار.
ومن شأن تسريع وتيرة إنجاز مختلف المشاريع في إقليم الحسيمة، خاصة مشاريع “الحسيمة منارة المتوسط”، وتتبع ومرافقة تنفيذها والعمل على إغنائها بحزمة إجراءات جديدة لتوفير فرص الشغل وتحفيز الاستثمار، أن يخلق وضعا وواقعا جديدين سينعكسان ايجابيا على الساكنة، وخاصة فئة الشباب.
إن مدينة الحسيمة، التي اعتاد جلالة الملك على قضاء جزء من عطلته الصيفية في ربوعها، تنتظره دائما على أحر من الجمر وبجرعة عالية من الفرح، وكلما حل بها تعبر ساكنتها بعفويتها الخاصة، كما عودته منذ جلوسه على العرش، عن حرارة استقبالها، وتمسكها بشخصه ووفائها له.
كما أن أبناء إقليم الحسيمة المقيمين في الخارج، الذين عادة ما يعودون بكثافة في فصل الصيف لقضاء عطلتهم السنوية، يرون في إقامة جلالة الملك محمد السادس بمدينتهم مبعث فخر وسعادة وابتهاج لهم.
*صحافي وكاتب