الدكتور خالد الشرقاوي السموني
تشكل وثيقة الاستقلال، التي يخلد المغاربة قاطبة ذكراها الخامسة والسبعين ، حدثا تاريخيا بارزا سيظل راسخا في ذاكرة الأجيال المتعاقبة، كملحمة حاسمة في مسار التحرر من ربقة الاستعمار ونيل الحرية والاستقلال.
ويحتفل المغاربة في 11 يناير من كل سنة بذكرى تقديم وثيقة الاستقلال الخالدة باعتبارها ملحمة عظيمة في مسلسل الكفاح الوطني الذي خاضه الشعب المغربي بقيادة ملكه من أجل حرية الوطن، وإحدى المحطات الرئيسية في تاريخ الكفاح الوطني المغربي من أجل تحقيق الاستقلال، والتصدي كذلك للظهير البربري في 28 غشت 1930.
ففي تاريخ 11 يناير 1944 قام رجال الحركة الوطنية بتقديم وثيقة إلى سلطات الحماية تطالب باستقلال المغرب ووحدة ترابه.
وارتكزت مطالب نص وثيقة الاستقلال على أربعة مطالب:
أولا: أن يطالب باستقلال المغرب ووحدة ترابه تحت ظل صاحب الجلالة ملك البلاد المفدى، سيدنا محمد بن يوسف نصره الله وأيده؛
ثانيا: أن يلتمس من جلالته السعي لدى الدول التي يهمها الأمر الاعتراف بهذا الاستقلال وضمانه، ولوضع اتفاقيات تحدد ضمن السيادة المغربية ما للأجانب من مصالح مشروعة؛
ثالثا: أن يطلب نظام المغرب للدول الموافقة على وثيقة الأطلنتي والمشاركة في مؤتمر الصلح؛
رابعا: أن يلتمس من جلالته أن يشمل برعايته حركة الإصلاح الذي يتوقف عليه المغرب في داخله، ويوكل لنظره السديد إحداث نظام سياسي شوري شبيه بنظام الحكم في البلاد العربية الإسلامية في الشرق تُحفظ فيه حقوق سائر عناصر الشعب المغربي وسائر طبقاته وتحدد فيه واجبات الجميع، والسلام.
وكان رد سلطات الحماية الفرنسية بشن حملة اعتقالات واسعة في حق رجال ونساء المقاومة الأبطال والبطلات.
ومنذ ذلك الحين. وبالرغم من الاعتقالات الواسعة في صفوف المقاومين في كل أرجاء البلاد، نهضت همم هؤلاء وتقوت عزيمتهم وإرادتهم من أجل الكفاح المستمر والمستميت حتى يتحرر الوطن وتنعم البلاد بالحرية والاستقلال.
وفي يوم 20 غشت 1953 عندما قررت الحكومة الفرنسية، باقتراح من الجنرال كيوم، إقالة الملك محمد الخامس رحمه الله، ونفيه من المغرب مع أفراد من الأسرة الملكية إلى جزيرة كورسيكا، ومنها إلى مدغشقر، اندلعت الشرارة الأولى لـ”ثورة الملك والشعب”، الخالدة في ذاكرة المغاربة.
فقد انتفض الشعب المغربي وفاء للروابط العضوية بينه وبين ملكه، فخرج بكل فئاته في مختلف أرجاء البلاد في انتفاضة عارمة، وبكل شجاعة وحزم، من أجل التصدي لمخططات المعمر الفرنسي، ليفجر غضبه ويؤكد رفضه المطلق إبعاد الملك الشرعي عن عرشه ووطنه، وليضرب بذلك مثلا رائعا للوفاء والإخلاص.
واندلعت أحداث مؤلمة، كما شُنت إضرابات عديدة شلت مختلف القطاعات الحيوية لاقتصاد البلاد، ونظمت عمليات للمقاومة أدت إلى استشهاد العديد من الوطنيين أثناء مقاومتهم للاستعمار. وقررت سلطات الحماية إطلاق حملة من الاعتقالات في صفوف الوطنيين.
وكان للمواقف الشجاعة للملك محمد الخامس، رحمه الله، الذي فضل المنفى على التفريط في سيادة المغرب ووحدته الوطنية، وقع كبير وحاسم في نفوس شعبه الوفي ضد الاستعمار والاستبداد والتحكم. ولم يرض الملك لنفسه المذلة والهوان وعبّر عن وفائه لشعبه وإخلاصه لعهد البيعة التي تجمعه به، فاختار سبيل التضحية بحياته من أجل حرية وكرامة الوطن. وقليل من الملوك والرؤساء من بقوا مخلصين لشعوبهم، إذ تآمروا على شعوبهم وتنكروا لعهودهم وانحازوا إلى الجهة الغالبة، خانعين وخاضعين، مقابل حمايتهم وحماية أسرهم من البطش أو النفي أو الاغتيال.
لقد شكلت وثيقة الاستقلال حدثا تاريخيا عظيما وخلّدت أروع صور الوطنية الصادقة وأغلى التضحيات في سبيل الوطن، ومنعطفا حاسما في ملحمة الكفاح المغربي من أجل الحرية والاستقلال. فالمغاربة آنذاك، رجالا ونساء، أعطوا المثال الحي للوطنية الصادقة ولحبهم لملكهم بوفاء وإخلاص وتضحية بالنفس والمال والولد. فقد خرجوا إلى الشوارع ونظموا المسيرات وتعبؤوا في حركات المقاومة، ومنهم من استشهدوا من أجل الملك والوطن، إنهم شهداء تحسبهم أمواتا لكن هم أحياء، ترفرف أرواحهم على أرض الوطن.
كما أن ذكرى ثورة الملك والشعب ملحمة متجددة في أذهان الأجيال، تُحتّم علينا على الدوام استحضار أرواح جميع رجال المقاومة الشهداء، بما أبلوا من تضحيات كبيرة، وإشادة خاصة بالعلماء ورجال الفكر والسياسة وطبقة العمال والفلاحين والتنويه بدورهم العظيم في تحرير المغرب.
وفي وقتنا الحاضر، فإن المغرب في حاجة إلى رجال ونساء وشباب مخلصين، لاستلهام دلالات الكفاح الوطني وتضحيات واستحضار أرواح الشهداء، الذين بفضلهم نعيش زمن الحرية والاستقلال، ولاستكمال الجهاد في سبيل تحقيق التنمية والديمقراطية والرخاء لبلادنا.
وفي الختام، نشير إلى أهمية التلاحم بين الملك والشعب، الذي كان حافزا أساسيا لتحدي السيطرة الاستعمارية من أجل المطالبة بالاستقلال والحرية والوحدة الوطنية، وهو ما ينبغي أن يستمر ويتقوى في مرحلة ما بعد الاستقلال، التي نعيشها حاليا وستعيشها الأجيال مستقبلا، من أجل دعم مسيرة التنمية والديمقراطية.