*عبد الصمد بن شريف

 

لماذا حدث كل هذا التجريف والتهديم؟ أين ذهبت جهود عشرات المفكرين والعلماء وقادة الرأي والسياسة؟ منذ حملة نابوليون بونابرت على مصر عام 1798، والجهود تبذل لتخطي حالة الانحطاط والعجز، لكن وتيرة التحول كانت تتم ببطء وتثاقل. وكانت تجابه عملية التغيير تحديات الواقع العنيد، وتشلها طبيعة القيم والثقافات السائدة في البيئة العربية. من هنا، يبرز السؤال: أين اختفت الكتابات والتنظيرات التي كرست للنهضة أو اليقظة العربية، وما جدوى إهدار الطاقة والوقت لقراءة آليات اشتغال المجتمعات العربية والإسلامية، وعلاقتها بالحداثة والتحديث والديمقراطيةوالعقلانية والآخر والتراث، كما فعل مفكرون في شمال إفريقيا والشرق الأوسط ومنطقة الخليج، والذين أصيب معظمهم بالإحباط واليأس، لأنهم وجدوا أنفسهم في قلب وضعية سيزيفية، أو كمن يصارع الطواحين الهوائية.

الأخطر في المسألة هو الاستخفاف بعامل الزمن، والكلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الناجمة عن وضعيةٍ كهذه، فكلما استحكمت الأزمات، وتعمقت مظاهر الانهيار واندثر العمران، ارتفعت الفاتورة، وأصبحت معها عملية إعادة الإعمار تمرينا صعبا ومرهقا بكل المقاييس، وكأنه كان لزاما على مجموعة دول أن تنهار، وأن تتلاشى فيها المؤسسات، وتتوقف فيها الخدمات والحياة، لكي تجد الدول الصاعدة ديمقراطيا واقتصاديا  موطئ قدم لها . ولكي تأخذ شكل الدولة التي تسودها القوانين والحقوق والواجبات.

تعدد الفاعلون والمتدخلون والنشطاء، وتشابكت الأجندة وتداخلت المصالح. وتبعا لذلك، انهارت الحواجز النفسية والأخلاقية بين العدوين الحقيقي والافتراضي. وبات من الجائز أن يحارب الأخ أخاه بدون الإحساس بأي عقدة ذنبٍ، أو اللجوء إلى تأنيب الضمير، وهذه حجة دامغة على اختلال الأوضاع، وارتباك الاختيارات وضبابية التوجهات، وغموض المشاريع على كل المستويات. انتظر الشارع العربي، بقلق بالغ، أن يرى شمس الحقيقة تضيء المناطق المعتمة والحزينة من هذه الجغرافيا المسكونة بالمفارقات والتناقضات. انتشى ذات ثورة، عندما افترض أنها ستقيم حائطا عازلا بين الوهم والحقيقة، وستكفر عن سيئات الساسة وصانعي القرار، وستدفن إلى الأبد ما ارتكبوه من مخالفاتٍ واغتيالات لفرص التقدم والتطور.

كان الاعتقاد أن الفرقاء تطهروا من جنابة المزايدات ورجسها، لكن الأوطان ظلت سجينة ندوبها وجراحها وآهاتها، وحافظت اللوبيات على سطوتها، ولم يزعزعها أحد، وأحزمة الفقر تزايدت وانتشرت في أكثر من بلد، ولم تنفع شعارات التغيير والانتقال الديمقراطي والكرامة والعدالة، وإشاعة ثقافة المواطنة، ولم تنجح الدساتير التي قدر لها أن تحرّر ويصادق عليها في بعض الدول  في الحد من شهوة أصحاب الامتيازات وجماعات الضغط وشهيتهم.

كان مأمولا أن تختفي من القاموس السياسي والإعلامي بعض الكلمات المهيجة والمستفزة، والاتهامات الكثيرة في كل الاتجاهات، لكنها استفحلت وتناسلت بوتيرة أكبر وأسرع، وألفينا بلاد العرب غارقةً في مستنقع من السلوكيات والممارسات المتخلفة وغير الديمقراطية وغير العقلانية، ولا قدرة لها على الإقناع بأنها تنتمي إلى خطابات حداثية. لأنه باختصار، من يلوكها ويجترها يفتقد إلى الرؤية الثاقبة، والنظرة الحصيفة.

فالذين تلاسنوا وتنازلوا بسيوف الحروب الكلامية في مجمل الاستحقاقات والمحطات، أثبتوا أن لا علاقة لهم بالحداثة والديمقراطية، وأكدوا أنهم ينتمون إلى “مليشيات المصالح الضيقة”، فنسجوا صورة سيئة وسلبية عن حقيقة الديمقراطية العربية.

أمام هذا المأزق التاريخي، يجب التسلح بمنتهى الشجاعة الفكرية والأخلاقية لتدشين مرحلة جديدة، تبدأ بإعلان قطيعة شاملة ومطلقة مع جملة من الممارسات والمقاربات والخطابات والحسابات، والشروع في عملية مصالحة جماعية بين مختلف مكونات الجغرافيا العربية، بعيدا عن أية حساسيات، ما سيساعد على فتح أوراش متنوعة ومشاريع واقعية، كمدخل  لمواجهة التحديات التنموية وترجمة الرهانات الأساسية المتفق عليها، بخصوص بناء الدولة الوطنية الديمقراطية.

*كاتب/ صحفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *