م. الحروشي
أثار لجوء القضاء الإداري إلى إلغاء إنتخاب عدد من رؤساء الجماعات الترابية، إرتكازا على عدم بلوغهم السن القانوني للترشح لمنصب رئيس جماعة ترابية، الكثير من الجدل السياسي و القانون والدستوري، على إعتبار أن الدستور ينص على أن سن الرشد يحدد في بلوغ 18سنة كاملة، و المادة 41 من مدونة الانتخابات، تحدد سن الترشح في 21 سنة.
ولتسليط المزيد من الأضواء القانونية حول الموضوع تنشر جريدة le12.ma عربية النص الكاملة لقراءة قانونية ودستورية للأستاذ بن يونس المرزوقي وهو أستاذ باحث بكلية الحقوق وجدة.
والبداية من هنا.
*ذ. بن يونس المرزوقي
هذا التوضيح، أعمق من مجرد ملاحظات قانونية محضة، بل يتعدى ذلك لأنه يهم كل من يستعمل مصطلح “مدونة الانتخابات”. نُلاحظ في البداية أن الأمانة العامة للحكومة لم تتمكن لحد الساعة من القيام بعمليات مُنتظمة لتحيين النصوص القانونية. وأقصد أساسا بالتحيين عملية (la COSOLIDATION)، أي إدماج التعديلات الجديدة في النص القديم، والبحث عن المتناقضات والثغرات وتنبيه الجهات المعنية لذلك. وقد أدى هذا “التقاعس” إلى قيام جهات عديدة بدمج وتحيين النصوص. أشير مثلا للعديد من “المجلات والدوريات والمواقع”، كما أشير إلى بعض المواقع الرسمية (موقع وزارة العدل، موقع رئاسة النيابة العامة…).
وسآخذ كنموذج مسألة سن الترشح في الجماعات الترابية، وعلاقة ذلك بمدونة الانتخابات ومستجدات دستور 2011 والقوانين التنظيمية ذات الصلة بالاستحقاقات لتوضيح الثغرة التي تقف وراء كل النقاش بين المهتمين، مع استحضار أن قواعد الاجتهاد الفقهي تختلف عن قواعد الاجتهاد القضائي.
أريد أن انطلق من السؤال التالي: ما موقع “مدونة الانتخابات” في النظام القانوني الوطني؟
للإجابة على ذلك، يجب أن نميز بين مرحلة ما قبل دستور 2011 (أولا) عن المرحلة الحالية (ثانيا)، قبل أن أدلي برأيي الخاص (ثالثا) وببعض نماذج من الاجتهاد القضائي (رابعا).
أولا: مدلول مدونة الانتخابات قبل دستور 2011
عرف المغرب عدة تجارب لوضع منظومة انتخابية متجانسة، كانت أهمها هي إصدار القانون رقم 9.97 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف المؤرخ في 2 أبريل 1997.
كان نصا متكاملا، يصلح أن نطلق عليه اسم مدونة، لأنه كان يشمل المجالات التالية:
1- وضع ومراجعة اللوائح الانتخابية العامة (القسم الأول)؛
2- الأحكام المشتركة لتنظيم الاستفتاءات وانتخاب المستشارين الجهويين وأعضاء مجالس العمالات والأقاليم وأعضاء مجالس الجماعات الحضرية والقروية ومجالس المقاطعات وأعضاء الغرف المهنية، ومن بين هذه الأحكام ما يتعلق بالحملة الانتخابية (القسم الثاني)؛
3- الأحكام الخاصة لكل نوع من الاستحقاقات مع تخصيص جزء لكل صنف (القسم الثالث)؛
4- التمويل واستعمال الوسائل السمعية البصرية العمومية أثناء الحملات الانتخابية بمناسبة الانتخابات العامة الجماعية والتشريعية (القسم الرابع)؛
5- أحكام انتقالية وختامية (القسم الخامس).
لذلك قلت بأن الأمر فعلا كان يتعلق بـــ”مدونة”.
لكن دستور 2011 سيدخل تعديلات جوهرية على النظام الانتخابي الخاص بالجماعات الترابية من جهة، كما أن المشرع استنادا على مقتضيات جديدة قام بإصدار نصوص مستقلة عن مدونة الانتخابات من جهة أخرى.
لذلك، فالسؤال هو ماذا تبقى من “مدونة الانتخابات” بعد مستجدات دستور 2021؟؟
ثانيا: الوضعية الحالية
مع تفعيل مقتضيات دستور 2011، بدأت عملية تفتيت مدونة الانتخابات وذلك بنسخ كل ما لم يعد يدخل ضمن مجالاتها. وقد تم ذلك على عدة مستويات، نُعالج منها هنا ما يتعلق بالجماعات الترابية.
ينبغي الإشارة إلى أن الفصل 146 من الدستور، أدمج ضمن مجال القانون التنظيمي العديد من المواضيع، ومن بينها “شروط تدبير الجهات والجماعات الترابية الأخرى لشؤونها … وكذا النظام الانتخابي، وأحكام تحسين تمثيلية النساء داخل المجالس المذكورة” …
لذلك، تم نسخ جميع ما يرتبط بالنظام الانتخابي لكل من الجهات، والعمالات والأقاليم، والجماعات والمقاطعات من مدونة الانتخابات. وهذه مسألة طبيعية لأن الفصل 71 من الدستور أدرج ضمن مجال القانون “النظام الانتخابي للجماعات الترابية…”، مما يعني أن هذا النظام ليس من نفس طبيعة النظام الانتخابي للغرف المهنية، وبالتالي وَجَبَ فصلهما (بمقتضى المادة 162 من القانون التنظيمي المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية).
وقد ترتب عن ذلك أن التوجه العام للمدونة أصبح يهم النظام الانتخابي المتعلق بالأحكام الخاصة بانتخاب أعضاء الغرف المهنية الأربعة: غرف التجارة والصناعة والخدمات، وغرف الصناعة التقليدية، وغرف الصيد البحري، والغرف الفلاحية (الجزء الخامس).
لكن الإشكال هو أن:
كثرة تعديلات النص بالنسخ والإضافات والتتميم والتغيير، أدت إلى الإبقاء على أجزاء من النص لا علاقة بما تبقى من “المدونة” لأنها أصبحت -كما أشرت أعلاه- من مجال القانون التنظيمي وليس القانون العادي.
وأهم مثال بهذا الخصوص، هو أن المشرع احتفظ بعنوان القسم الثاني:
“الأحكام المشتركة لتنظيم الاستفتاءات وانتخاب المستشارين الجهويين وأعضاء مجالس العمالات والأقاليم وأعضاء مجالس الجماعات الحضرية والقروية ومجالس المقاطعات وأعضاء الغرف المهنية”. وقد تم ذلك بموجب المادة الأولى من القانون رقم 64.02 الصادر بتنفيذه ظهير 24 مارس 2003، بل إن مضمون المادة 38 أكد ذلك.
فعلى أي أساس دستوري تم الاحتفاظ بهذه المقتضيات في شقها المتعلق بالجماعات الترابية؟
ولماذا لم يتم تدارك لك رغم إدخال العديد من التعديلات والتغييرات والتتميمات بمقتضى العديد من القوانين خلال سنوات 2021، 2015، 2011، 2008، 2007، و2003، علما بأنه في بعض السنوات صدرت عدة تعديلات.
لقد شكل دستور 2011 مرحلة جديدة بإسناده تنظيم انتخاب أعضاء الجماعات الترابية إلى مجال القانون التنظيمي، لكن السؤال بقي دائما مطروحا:
ما جدوى الإبقاء على الإشارة إلى الجماعات الترابية في عنوان القسم الثاني ومضمون المادة 38، (وخاصة ما يتعلق بسن الترشح)؟
ثالثا: الرأي الشخصي
شخصيا، أعتبر أن كل إشارة إلى ما يرتبط بالجماعات الترابية في مدونة الانتخابات مُلغاة من خلال تطبيق القواعد التالية:
1- النص الأعلى يُلغي النص الأدنى؛
2- والنص اللاحق يُلغي النص السابق.
وتطبيق ذلك:
1- القانون التنظيمي أعلى من القانون العادي؛
2- وقانون 2011 لاحق على قانون 2003.
ولتفصيل أكثر:
1- إن القانون التنظيمي رقم 59.11 المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعية الترابية سنة 2011 (وهو النص الأعلى) ألغى مقتضيات مدونة الانتخابات بما في ذلك تعديلات القانون 02-64 لسنة 2003 (وهو النص الأدنى)؛
2- ثم إن القانون التنظيمي رقم 59.11 المتعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعية الترابية سنة 2011 (وهو النص اللاحق) ألغى مقتضيات مدونة الانتخابات بما في ذلك تعديلات القانون 02-64 لسنة 2003 (وهو النص السابق).
يبقى الآن أن نطرح السؤال الأخير:
تبعا لهذه المعطيات، فإن “مدونة” الانتخابات ينبغي ألا يكون لها أي صلة بالجماعات الترابية، وبالتالي ما مصير المادة 41 المتعلقة بسن الترشح المحددة في 21 سنة؟
للإجابة على ذلك، نقول في البداية، أنه ليس هناك ما يمنع من تطبيق سن 21 للترشح على الغرف المهنية الأربعة، ما دام أن “مدونة الانتخابات” أصبحت تهم أساسا هذه الغرف المهنية.
لكن:
لا يُمكن تطبيق هذه السن على الراغبين في الترشح لمختلف الجماعات الترابية، نظرا لما ترتب عن مستجدات دستور 2011 الذي جعل الموضوع من مجالات القانون التنظيمي لانتخاب أعضاء الجماعات الترابية، ولذلك وجب الرجوع له لمعرفة السن المطلوبة.
بالرجوع لهذا القانون التنظيمي نجده ينص في المادة 4 فقط على ما يلي:
“يشترط في من يترشح للانتخابات أن يكون ناخبا ومتمتعا بحقوقه المدنية والسياسية”.
لا يُمكن أن نستنتج من هذه القاعدة إلا أن سن الترشح هو نفسه سن التصويت، أي سن الحق في التسجيل في اللوائح الانتخابية.
وهذا الاستنتاج، مُستنبَط أولا من الدستور، حيث ينص الفصل 30/الفقرة الأولى على ما يلي:
“لكل مواطنة ومواطن، الحق في التصويت، وفي الترشح للانتخابات، شرط بلوغ سن الرشد القانونية، والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية. …”.
وفق هذا المبدأ الدستوري، هناك مساواة بين الحق في التصويت والحق في الترشح للانتخابات، حيث يتطلب الأمر شرطا واحدا، وهو، “بلوغ سن الرشد القانونية، والتمتع بالحقوق المدنية والسياسية”.
وطبعا، بما أن سن الرشد القانونية هي 18 سنة، فإنها هي نفسها سن الترشح.
لن أعالج هنا، مسألة سن الترشح لعضوية مجلس النواب ومجلس المستشارين، لأنهما يتطلبان تفاصيل أكثر، وإن كان نفس المنطق ينطبق عليهما، وإن بشكل آخر.
لكنني أشير إلى أن هذا الغموض القانوني، يضفي غموضا أكثر على الواقع، حيث لن تعثر على وثيقة رسمية مكتوب فيها مثلا: سن الترشح: … سنة.
رابعا: الاجتهاد القضائي
للقضاء اجتهاداته الخاصة، حيث يعتبر أن سن الترشح هي 21 سنة. ويتبين ذلك من خلال عدة أحكام وقرارات تدور كلها بصفة عامة حول المنطق القانوني التالي:
“إن أهلية التصويت والترشيح للانتخابات تم النص عليها في مقتضيات المادة الرابعة من القانون 59.11 التعلق بانتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابية في الفرع الأول من بابه الثاني المتعلق بأهلية الترشح وموانعه والتي وإن نصت على أنه يشترط في من يترشح للانتخابات أن يكون ناخبا ومتمتعا بحقوقه المدنية والسياسية لم تحدد أي سن معينة، لأن مقتضيات المادة (162) من نفس القانون وغن نسخت من القانون رقم 9.97 بشأن الانتخابات المغيرة والمتممة بمقتضيات المادة الأولى من القانون رقم 36.08 الصادر بتنفيذه الظهير الشريف رقم 1.08.150 المؤرخ في 02 محرم 1430 (30/12/2008) المنشور بالجريدة الرسمية عدد 5696 بتاريخ فاتح يناير 2009 التي تشترط في من يترشح للانتخابات الجماعية ان يكون ناخبا وبالغا من العمر واحد وعشرون سنة شمسية كاملة على الأقل في التاريخ المحدد للاقتراع” (القرار رقم 340/1 بتاريخ 25/02/2016 الصادر عن محكمة النقض).
الخاتمة:
إن المغرب، وهو يقوم بعملية تطوير المنظومة القانونية بصفة عامة، فإنه ينبغي تكثيف عملية التحديث من جهة، وسد الثغرات الموجودة من جهة أخرى.
خلاصتي، أن هناك “إغفال تشريعي” يجعل من عدم سحب ما يتعلق بانتخاب أعضاء الجماعات الترابية من مدونة الانتخابات التي تضم مسألة مجانبة للصواب، وينبغي استدراكها في أسرع وقت، وأنه على القضاء معالجة هذه الوضعية باعتبار أنه هو الذي يتولى حماية الأمن القضائي للأفراد والجماعات (الفضل 117 من الدستور)، مع إلغاء تسمية “مدونة الانتخابات” ليُصبح “قانون انتخاب أعضاء الغرف المهنية”.
* أستاذ باحث بكلية الحقوق وجدة