نجيب الصومعي

يعتبر النموذج التنموي، بوصلة التنمية الاقتصادية والاجتماعية وكذلك التوجهات البيئية لكل دولة. وهو في نفس الوقت نوع من التعاقد الاجتماعي بين كافة مكونات الأمة، من أجل تحقيق تطلعات الشعوب على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. كما أنه يعتبر خارطة الطريق الحقيقية لولوج المستقبل، لما يوفره من إعدادات ظرفية(Conjoncturelle) وبنيوية(Structurelle) تشكل مفتاح تحقيق الرفاه الاقتصادي والاجتماعي.

وقد مكن اعتماد نماذج تنموية جديدة، من خلق ديناميات عميقة في مسار التحول التنموي للعديد من دول العالم، حيث عرفت بنياتها الاقتصادية والاجتماعية جملة من التغييرات البنيوية ارتقت الى دول صلبة اقتصاديا واجتماعيا ونماذج ملهمة لبقية دول العالم. وهنا نستحضر نماذج “الطريق الثالثة” بالصين و”التخطيط الاقتصادي الجديد” بماليزيا، حيث تمكنت الصين في ظرف 30 سنة من أن تصبح ثاني اقتصاد في العالم، واستطاعت ماليزيا أن تصبح أهم مركز جذب للاستثمارات المالية المبتكرة. وعلى المستوى القاري، فنموذج رواندا التنموي، مكن البلاد من تجاوز سنوات مظلمة للصراع الطائفي بين “الهوتو والتوتسي “، وأتاح لرواندا أن تصبح أسرع اقتصاد قاري في العشر السنوات الأخيرة، وأحد أهم مصادر الالهام التنموي عالميا.

وفي سياق مجموعة من التحولات الاستراتيجية التي تتجلى أساسا في الحرب التجارية بين القوى العظمى، وما نتج عن ذلك من تدابير حمائية وتغيرات بنيوية في منظومة التجارة العالمية، تمهّد لنظام اقتصادي عالمي جديد. وبمقابل هذا التحول، يعيش الاقتصاد العالمي على وقع تغيرات متسارعة فلسفيا وتقنيا. حيث أن السنوات الخمسين المقبلة ستشهد اندثار المفهوم الكلاسيكي للاقتصاد، في أفق ظهور تحديات جديدة تهم كل دول العالم بدون استثناء.

وهنا يكمن الرهان الاكبر للنموذج التنموي الجديد، كيف ستتمكن بلادنا من مجاراة التغيرات الاقتصادية العميقة؟ وما هي التصورات الواجب تبنيها لإنجاح اندماجنا في هذا النظام الاقتصادي العالمي الجديد؟

لذلك يجب على النموذج الجديد اعطاء اقتراح توجها استراتيجية براغماتية للانصهار في النظام العالمي الجديد، وهنا يجب المضي قدما في تبني توجهات مبتكرة ومبدعة للاقتصاد الوطني، وتبني مفاهيم متطورة كتوجهات الاقتصاد الازرق واقتصاد المعرفة(Knowledge Economy) واقتصاد الحدود والاقتصاد التشاركي، نظرا لكونهم اثبتوا ناجعتهم في خلق الثروة الاقتصادية وتحقيق عوامل تأثير كبيرة على المستوى الاجتماعي.

وفي هذا المشروع المصيري لبلادنا، يعتبر التعليم عصب الحياة وشرط أساسي لضمان نجاح مسارات النمو(Processus de développement)، ويحتاج المغرب لإعادة نظر كاملة في منظومته الوطنية للتربية والتكوين، من أجل أن تلعب دورها المحوري في ضمان الكفاء ات العالية (HIPO) اللازمة من أجل تحريك عجلة التنمية. وفي هذا الإطار، يجب على البحث العلمي أن يكون المحفز الاول لخلق المقاولات المبتكرة (Start-up) ، والتي تعد آلية ناجعة لخلق القيمة المضافة العالية(haute valeur ajoutée) ، مما من شأنه تعزيز نسبة النمو عبر معادلة التشغيل الذاتي وخلق حالات التحفيز(effet d’entrainement) بين مكونات النسيج الانتاجي.

كما يجب الاستثمار في الانسان، باعتباره رافعة التنمية بكل المجتمعات الساعية للتقدم والازدهار، لذلك فبلادنا مدعوة لتقوية المناعة الاجتماعية وتعزيز مبادئ تكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية، انسجاما مع التقدم الملموس الذي حققه المغرب في مجال احترام حقوق الانسان. كما ينبغي، تحسين وتيسير الولوج لخدمات اجتماعية ذات جودة عالية ومتوفرة للجميع، خاصة الخدمات الادارية والصحية والقضائية.

إن مستقبل الأمة المغربية، ينبني على اعتماد نموذج تنموي قادر على تحقيق ولوجنا لنادي الدول الصاعدة، وتعزيز المكتسبات الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية ببلادنا، بجانب توطيد التوجهات البيئية للمغرب وخصوصا الاستثمارات الاستراتيجية في الطاقة المتجددة، التي ستمكن البلاد من توفير أزيد من 50% من فاتورته الطاقية في أفق 2050. كما أن الالتزامات المغربية في ميدان البيئة يعتبر عامل تموقع(facteur de positionnement) جد متقدم في الاقتصاد العالمي والأسواق المالية، مما من شأنه تعزيز الثقة الدولية في المغرب كنموذج مثالي وآمن للاستثمار الدائم والمسؤول(Investissement Durable et Responsable) .

إن جلالة الملك، بدعوته لاعتماد نموذج تنموي جديد، فهو يدعو لاعتماد أجندة وطنية جديدة خدمة للإنسان المغربي ولكرامته وعيشه الكريم، وسيكون لهذا النموذج الجديد أثر جدري على الأمة المغربية، حيث أنه يشكل المدخل الرئيسي لمستقبل زاهر ورفاه اقتصادي واجتماعي لكافة مكونات المجتمع المغربي.

*محلل مالي وباحث في الاقتصاد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *