جمال اسطيفي

في مونديال 2018 بروسيا خطف الجمهور الياباني الأنظار، فرغم خسارة منتخبه بهدف قاتل في الاشواط الإضافية أمام بلجيكا بهدفين لثلاثة، فإن المشجعين اليابانيين حرصوا على جمع القمامة من المدرجات التي خصصت لهم..

حدث ذلك، رغم أنهم كانوا في قمة الحزن بسبب السيناريو الدراماتيكي للخسارة، وقد كان بمقدور أي كان أن يجد لهم العذر، لو أنهم لم يقوموا بتلك الخطوة..

لم يقتصر الأمر على المشجعين فقط، بل إن اللاعبين قاموا بدورهم بتنظيف غرفة الملابس، تاركين خلفهم رسالة شكر للمنظمين الروس..

بدا الأمر حينها مثيرا للدهشة، وبينما ردت الفيفا برسالة شكر، فإن الواقعة أسالت الكثير من المداد في وسائل الإعلام الدولية.

 عندما تزور اليابان، ستكتمل لديك الصورة، وستدرك أن ما تسبب في اندهاش العالم، هو ليس في حقيقة الأمر  إلا سلوكا عاديا يقوم به المواطن الياباني كل يوم، فقد تربى عليه من الصغر، حتى صار أمرا روتينيا بالنسبة له يقوم به دون تكلف، ودون أن يشعر  بالحاجة إلى الامتنان..

في طوكيو، حيث قادتني الألعاب الأولمبية لزيارة هذا البلد، كان أول ما أثار انتباهي وانا اضع قدماي بهذا البلد هو النظافة.

إنها ليست نظافة للواجهة، او نظافة عابرة، بل إنها نظافة تشمل كل شيء، لا فرق بين منطقة راقية واخرى غير راقية.

في الميترو، وسيارات الأجرة، في الفنادق، والاسواق، وفي كل مكان خطر على بالك ان تزوره ستجد ان النظافة تميز المكان..

حتى في التعاملات المالية، يبدو الأمر في اليابان مختلفا، فإذا أردت أن تدفع ثمن منتوج ما، او تدفع مقابل استخدامك لسيارة الأجرة، فإنك يجب ان تضع النقود في صحن صغير مخصص لذلك..

هذا الأمر يحدث لان الأوراق النقدية يمكن ان تنقل جراثيم او اشياء اخرى لا تراها العين..

اما إذا دخلت منزلا أو متجرا واردت ان تقيس ثيابا من اجل اقتنائها فإنك ملزم بخلع حذائك، والاكتفاء بالجوارب فقط..

وقد لا تميز في طوكيو، بين عامل النظافة او الطبيب او مدير الشركة او الوزير، فلباس عامل النظافة أنيق جدا، كما أنك لا يمكن ان تصادف الحافلات المخصصة لنقل القمامة، لأنها تقوم بعملها في وقت مبكر.

اكثر من ذلك، فإن صناديق القمامة لا تنتشر في كل مكان..

ثمة أماكن مخصصة للإقامات السكنية، حيث توضع فيها صناديق القمامة بإحكام، ومع فرز واضح لأنواعها، مما يسهل عملية تدويرها في ما بعد..

بيد أن المثير في اليابان، هو انك لا يمكن ان تشاهد حاويات القمامة الكبيرة، بل كل ما يمكن ان تجده، هو صناديق صغيرة للقمامة في هذا المتجر او ذاك المطعم..

اكثر من ذلك، فإن الياباني إذا لم يجد مكانا يضع فيه القمامة، فإنه سيحتفظ بها في محفظته، وقد يعيدها إلى منزله ويضعها في المكان المخصص للقمامة.

لكن ما الذي يجعل اليابان نظيفة رغم أن حاويات النفايات الكبيرة منعدمة في شوارعها..

جواب ذلك بسيط جدا..

المواطن الياباني يتربى منذ الصغر على أهمية النظافة، إنها أشبه بالعقيدة بالنسبة له، فلا يكاد يخلو بيت من حمام به بانيو، حيث لا يكف اليابانيون عن الاغتسال.

كما أن الأمر يتم بشكل ذاتي، فاليابانيون لا يجلبون خادمات لبيوتهم..

ولأن التعليم في الصغر كالنقش على الحجر، فمنذ نعومة الأظافر يتلقى الطفل الياباني دروسا يومية في النظافة من والديه، ثم يجد الأمر نفسه في المدرسة، حيث يتعود تلاميذ المؤسسات التعليمية على تنظيف الأقسام التي يدرسون بها أو مرافق المؤسسة، علاوة على انه يتم في الاحياء وفي المدارس وعلى مستوى البلديات تنظيم مسابقات في النظافة..

ثمة وعي مجتمعي بأهمية النظافة، هو الذي جعل اليابان تسمو فوق الجميع، وجعل هذا الوطن وهذا الشعب الأنظف على وجه البسيطة دون منازع.

*ناقد رياضي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *