طلحة جبريل

اِفْتَقَدَ كثيراً باعة الصحف المتجولين. في  لحظة حنين إلى الأمسيات التي كانت تباع فيها صحف الصباح في المساء، ذهبت إلى وسط الرباط أملاً في شراء صحف الصباح.

لم أجد باعة الصحف الذين كانوا يفترشون الأرض في شارع مجمد الخامس، وبالتالي لم أجد الصحف.

عدت من حيث أتيت، لكن عادت بي الذاكرة سنوات إلى الوراء ، وعلى الرغم من أن السنين تجري سراعاً لكن الذاكرة ما تزال تختزن بعض الصور الذهنية  عن أشخاص أو الشخوص كما تقول لغة المسرحيين.

قفز إلى الذاكرة اسم “محمد خيا” بائع الصحف الذي كان يفرش صحفه قبالة محطة القطار وسط الرباط.

عدت إلى بورتريه كنت كتبته عنه قبل قرابة عقدين من الزمن. أقتطف لكم بعض ما كتبت:

محمد خيا رجل يقتات من الأزمات والأحداث وأسوأ أيامه هي الأيام الماطرة. يعرفه كثيرون خاصة أعضاء الأحزاب والنقابات والجمعيات والكتاب والقراء الذين يندلقون في شوارع العاصمة ليلاً.

لا يوجد صحافي لا يعرفه لكن قلة تعرف أسمه أو بعض تفاصيل حياته. يبدأ عمله يومياً في شارع محمد الخامس عصراً ويعود إلى منزله فجراً.

يتجمع حوله كثيرون. قراء صحف. فضوليون يقرأون مجاناً أو يكتفون بقراءة العناوين.صحافيون يبحثون عن معلومات حول أرقام توزيع صحفهم. باعة متجولون. مسؤولون وقادة سياسيون يأتون بسياراتهم لشراء الصحف.

يدخن محمد خيا بشراهة. يمص لفائف التبغ مصاً طوال الليل حتى لتخال فمه مرمدة سجائر. يأتي أحدهم ويسأل عن مبيعات الصحيفة التي يعمل بها أو تلك التي له علاقة بها. يجامل محمد خيا الجميع حتى ولو لم تكن الصحيفة تبيع نسخة واحدة فإنه يقول لصاحبها “صحيفة ممتازة عليها اقبال”. في بعض الأحيان يزيد جرعة المجاملة فيضطر للاختلاق “صحيفة هائلة عليها إقبال.. بعت الدفعة الأولى وما تراه هو الدفعة الثانية”. عندما سألته لماذا تختلق يا سي محمد يرد “هل تريدني أن أقول له إن صحيفته لا تبيع ولو نسخة واحدة”.

لكن خيا إذا أعجبته صحيفة يقول لك: “هذه صحيفة معقولة”. كما أنه يرتبط بعلاقة مودة مع بعض الصحافيين لذلك يقول لك “فلان كتب موضوعاً جيداً عليك أن تقرأه”. كان يعرف معظم الصحافيين. الصحافيون أيضاً يعرفونه لذلك ينفحونه أحيانا أزيد من المبلغ المطلوب. لكن بعضهم يشترون منه على أساس التسديد لاحقاً. ثمة صحافيون مفلسون في كل مكان.

 من قال إن هناك صحافيين أغنياء.

لا أحد يجيء في الليالي الباردة الماطرة. يجلس خيا فوق الصحف المكدسة ويكتفي بمص لفائف التبغ. ويعود إلى أطفاله منهك بالخيبات.

 سألت كثيراً عن محمد خيا.

تلقيت خبراً مؤسفاً محزناً، غادر الرجل دنيا الناس منذ سنوات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *