تقي الدين تاجي
بالأمس، خرج بنكيران ليرد على الاتهامات الموجهة إلى المملكة بشأن قضية التجسس، حيث قال، في كلمة بثت على صفحته الرسمية بموقع التواصل الاجتماعي “الفيسبوك”، إن “من يروّج لمزاعم تفيد بكون المخابرات تتجسس على الملك كذاب ولا يريد إخبارنا بأي معلومة”، متسائلا: “ماذا يريد هؤلاء منا؟”.
ولا شك أن الزعيم السابق لحزب العدالة والتنمية، كان يخطط لخروج إعلامي، قبل تفجر قضية “البيغاسوس”، وتحديدا منذ تداول إسمه للترشح وكيلا للائحة الحزب بدائرة سلا، بيدَ أنه ظل مترددا، حول الطريقة التي سيعاود من خلالها، الإعلان عن عودته الى المشهد السياسي، حتى تفجرت قضية “اتهامات أمنستي للمغرب بالتجسس”، فأخذَ بتلابيبها، أملا في أن تسرّع من عودته المنشودة، وبأقل مجهود.
وطبعا ليس هناك أفضل، من أن يخوض رئيس حكومة سابق، في أمور تتعلق بكواليس المطبخ الداخلي للدولة، والإتيان على ذكر رجالاتها بالإسم، من أجل التذكير بأنه هو أيضا، وإلى الأمس القريب فقط، كان واحدا من رجالات هاته الدولة.
والظاهر أن حديث بنكيران، عن الحموشي والمنصوري، بتلك الحميمية الغريبة في خطابه سالف الذكر، والإصرار على سرد جوانب من صفاتهما الشخصية، خاصة منهما المدير العام للأمن الوطني ومراقبة التراب الوطني، الذي وصفه بـ “المتدين” و “ولد الناس”، تقف خلفه رغبة “لا واعية” من “رئيس الحكومة السابق”، في التأكيد على الصلات التي جمعته، برجالات الدولة ذات زمن، وتوجيه رسالة لمن يهمهم الأمر، أنه مستعد دائما للعودة للاشتغال من أي موقع كان.
وعلى غرار عادته في دس “السم في العسل” يسترسل بنكيران مانحا لنفسه الحق في تقييم السياسة الأمنية للبلاد قائلا “لا تظلموا المسؤولين الأمنيين، وعلى رأسهم عبد اللطيف الحموشي، الذي أنا مقتنع بأنه أفضل مَن أمسك الملف الأمني في المغرب، حتى لو أخطأ في بعض الأمور” .
وقد ترك هنا بنكيران، باب التأويلات مفتوحا على مصراعيه، دون أن يحدد لنا، ما هي هاته الأمور التي أخطأ فيها الحموشي، بل الأفضع من ذلك هو توجيه رسالة الى الخارج، في “ظرفية حساسة جدا”، قد يفهم منها تورط المؤسسة الأمنية، في تجاوزات معينة، خاصة حينما يصدر مثل هذا الكلام، عن شخص كان يعتبر الى وقت قريب، الرجل الثاني في هرم الدولة، وكان متاحا له بحكم منصبه، الاطلاع على مجموعة أمور وخبايا.
ثم زاد بنكيران قائلا ” أن المملكة المغربية “مستهدفة أولا من طرف حكام جيراننا الذين لا يرغبون في مراجعة أنفسهم لأنه يسير في الطريق الصحيح، وفيه ديمقراطية رغم كونها غير كاملة”.
ولعل الجميع سيلاحظ مرة أخرى، كيف عاد رئيس الحكومة السابق، وفي إصرار غريب على الإنتقاص من “كل شيء”، ليصف ديمقراطية المغرب بغير الكاملة، والهدف هنا طبعا، هو استغلال الفرصة لإبداء رأيه في النظام السياسي المغربي، مضيفا “ورغم بعض القوانين المجحفة واستهداف حزب العدالة والتنمية، لكن هذا لا يمنع من أننا نتقدم بالمقارنة مع المراحل السابقة”.
ولا شك أن العارفين بعلم البلاغة، وفنون الخطابة و”ميكانيزماتها”، يدركون جيدا، أن مثل هاته التقنيات، التي وظفها بنكيران في خروجه الإعلامي، تندرج ضمن ما يصطلح عليه بـ “الذم بما يشبه المدح”، وذلك من خلال “أن يُستثنَى من صفة مدح منفية عن الشيء، صفة ذم بتقدير دخول صفة الذم المستثناة في صفة المدح المنفية.” ومثال ذلك قول الشاعر : “حَسنُ الطباع سوى أنه** جبان يهون عليه الهوان”.
ولعله كان متوقعا، أن تأتي تصريحات بنكيران على هاته الشاكلة “الغريبة”، المبهمة، غير الواضحة، فالرجل لازال لم يبتلع الى اليوم، الطريقة المذلة التي تم بها إبعاده من رئاسة الحكومة الثانية، بعد فشله في تشكيلها، ولذلك أضحى لا يدع أي مناسبة تمر، دون إستغلالها في تصريف غله، موظفا صيغاً “كلامية” تظهر عكس ما تبطن، منها “التورية” و “المجاز” و”الذم بما يشبه المدح””، ودس السم في العسل”، وبما أن “طعم العسل يطغي على ما يخالطه فمن الصعب كشف حالات غشه”.