*خير الله خير الله

هناك زيارات تتعدّى معنى الزيارة العادية وطابع المجاملات. هناك زيارات ترتدي ابعادا سياسية عميقة نظرا الى انّها تظهر بوضوح نفسيّة الضيف والمضيف في آن. كشفت الزيارة التي قام بها الرئيس الجزائري عبدالمجيد تبّون لزعيم “بوليساريو” إبراهيم غالي في مستشفى عين النعجة العسكري أمورا عدّة، يبدو مفيدا التوقّف عندها.

في مقدّم هذه الأمور ان الحقد لا يبني سياسة. ليس كافيا ذلك الحقد الذي يكنّه النظام الجزائري للمغرب ملكا وشعبا، كي يصبح في الإمكان القول انّ لدى الجزائر سياسة يمكن وصفها بالبناءة، لا تجاه الداخل، أي تجاه الشعب الجزائري، ولا تجاه الخارج بما يخدم الاستقرار الإقليمي.

عاد تبّون إبراهيم غالي بعد رحلته العلاجية لاسبانيا التي دخلها بجواز جزائري باسم مستعار وغادرها بعد استجوابه في قضايا تتعلّق بالتعذيب، وهي قضايا مرفوعة ضدّه في اسبانيا. اطلقت العدالة الاسبانية زعيم “بوليساريو” الذي عادت به طائرة خاصة جزائرية الى البلد الذي يرعاه ويستخدمه افضل استخدام في قضيّة خاسرة اختلقتها الجزائر التي تشنّ حرب استنزاف على المغرب.

واضح ان مدريد لا تريد مشاكل مع الجزائر التي أرسلت اليها تلك الهديّة المسمومة بشكل مريض يحتاج الى علاج في احد المستشفيات الاسبانية، تماما مثلما احتاج الرئيس الجزائري الى علاج في احد المستشفيات الألمانية اثر اصابته بكورونا. ذهب تبّون الى المانيا وذهب غالي الى اسبانيا، علما ان الرئيس الجزائري كان يتبجّح في مرحلة معيّنة بان بلده يمتلك “افضل نظام صحّي” بين دول المنطقة!

كشفت زيارة الرئيس الجزائري لزعيم “بوليساريو” والحديث المتبادل بينهما طبيعة العلاقة القائمة بين الجانبين ايضا. هناك طرف تحت الرعاية الجزائرية ينفّذ السياسة المطلوبة منه لا اكثر. لا وجود لحق تقرير مصير لشعب. كلّ ما هناك انّه توجد ميليشيا مسلّحة تضمّ صحراويين تعمل في خدمة النظام الجزائري، أي المؤسسة العسكريّة الجزائرية.

كان واضحا خلال وجود تبون في مستشفى عين النعجة العسكري في العاصمة الجزائرية انّ الرجل يعمل في اطار معيّن ويتحرّك ضمن حدوده. هذا الاطار هو المؤسسة العسكرية الجزائرية التي أتت به الى موقع الرئاسة تنفيذا لأغراض خاصة بها. تكفي، للتأكّد من ذلك، العودة الى الشريط الذي بثّه التلفزيون الجزائري عن زيارة تبّون لغالي. ظهر الرئيس الجزائري محاطا بكبار العسكريين الجزائريين، بما يدل على ان النظام القائم في الجزائر هو نظام الكولونيلات ولا شيء آخر. كان في مقدّم الضبّاط السعيد شنقريحة الذي يبدو واضحا انّه المشرّف العام على الزيارة وانّه، مع المحيطين به، مرجعية كلّ من يتولّى موقعا في الإدارة الجزائرية، بما في ذلك رئيس الجمهوريّة.

يظلّ المعنى الاهمّ للزيارة، التي ترافقت مع تصريحات في غاية العدائية للمغرب ادلى بها تبّون الى مجلّة “لو بوان” الفرنسيّة، أنّ اسبانيا وقعت في الفخّ الجزائري. وقعت في هذا الفخّ بمجرّد استقبالها ابراهيم غالي بجواز جزائري يحمل اسما آخر، علما انّه مطلوب من العدالة الاسبانية. كيف لدولة تحترم نفسها القيام بمثل هذه الخطوة لولا وجود نيّات سيّئة تجاه المغرب؟

فجأة استفاقت الحكومة الاسبانيّة على الماضي الاستعماري لمملكة كانت موجودة في كلّ المنطقة ولا تزال تحتلّ أراض وجزر مغربيّة. هذا الاحتلال الذي صبر المغرب عليه طويلا، ولا يزال صابرا عليه، يفرض على اسبانيا التي تطالب بجبل طارق التصرّف بطريقة مختلفة من تلك التي اعتمدتها حتّى الآن.

لم يكن التصرّف الاسباني حضاريا بايّ شكل بمقدار ما كان استجابة لرغبة دفينة في تصفية حسابات مع المغرب على الرغم من وجود مصالح مشتركة كبيرة وواسعة بين الجانبين اللذين لا تفصل بينهما سوى كيلومترات قليلة بحرا. من الواضح، ان اسبانيا التي كانت تستعمر، حتّى العام 1975 الصحراء المغربيّة، لم تهضم بعد فكرة اعتراف الولايات المتّحدة بمغربيّة الصحراء. لا تريد أيضا الاعتراف بانّ المغرب استطاع جعل المجتمع الدولي يقتنع، في معظمه، بانّ الحل الذي يطرحه في الصحراء، أي اللامركزيّة الموسّعة في اطار السيادة المغربيّة، هو الخيار الواقعي الوحيد لقضيّة مفتعلة. هذه القضيّة هي بين المغرب والجزائر التي تستخدم شعارات لا علاقة لها بالواقع القائم على الارض من اجل اثبات انّها قوّة اقليميّة.

في كلّ الأحوال، تحتاج اسبانيا الى التعرّف الى المغرب بطريقة افضل، خصوصا بعد اكتشافها ان الصبر والحكمة اللذين يمارسهما الملك محمّد السادس ليسا دليل ضعف، بل دليل قوّة وثقة بالنفس. لعلّ اكثر ما يدلّ على هذه الثقة بالنفس التنمية التي يشهدها المغرب حيث هناك استثمارات لما يزيد على الف شركة اسبانيّة. لولا التنمية ولولا التقدّم الذي يحرزه المغرب لما كان كلّ هذا الاقبال للشركات الاسبانيّة. تضاف الى ذلك، في طبيعة الحال، الاختراقات التي سجّلها المغرب في القارة الافريقية، خصوصا منذ عودته الى لعب دوره الطبيعي في الاتحاد الافريقي في العام 2017.

يبقى بالنسبة الى الجزائر، التي يتباهى رئيسها بإغلاق الحدود مع المغرب منذ أواخر العام 1994، أنّ الطبيعي ان تتوقّف سياسة الهروب الى الخارج من جهة والعيش في الأوهام من جهة اخرى. بدل ان يعطي تبّون دروسا للمغرب وبدل ان يهاجم المؤسسة الملكيّة، يفترض به التصالح مع الجزائريين اوّلا. مشكلة الجزائر في الجزائر ومع الجزائريين وليس في المغرب ومع الشعب المغربي. كلّ ما في الامر، ان المشكلة تكمن في عقلية ترفض ان تتطور. تخشى هذه العقلية التي تتحكّم بالمؤسسة العسكرية الجزائرية من فتح الحدود مع المغرب استجابة لنداءات عدّة وجهها محمّد السادس في السنوات القليلة الماضية. لعلّ اكثر ما تخشاه المؤسسة العسكريّة التي تخلّصت من عبد العزيز بوتفليقة، الذي كان يسعى الى ولاية خامسة على الرغم من انّه مقعد، ان يذهب جزائريون الى المغرب. تخشى المؤسسة العسكرية ان يشاهد الجزائريون كيف استطاع بلد يمتلك إمكانات متواضعة الانتقال سريعا الى بلد متطوّر في غياب الثروات الطبيعية. في المقابل، بدد النظام الجزائري المليارات من الدولارات التي دخلت خزينة الدولة في مشاريع لا فائدة منها كانت جبهة “بوليساريو” احدها!

مرّة أخرى، الحقد لا يمكن ان يكون سياسة. التصالح مع الشعب الجزائري اوّلا هو أساس لسياسة بناءة يمكن ان تعيد للثورة الجزائرية رونقها الذي فقدته تباعا مع مرور السنوات منذ استقلال البلد في العام 1962.

 

المصدر : ميديل إيست

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *