محمد أقديم

حكى العلامة المختار السوسي عن شيخه أبي شعيب الدكالي (شيخ السلفية الوطنية المغربية) أنه “حين زوج أحد أولاده، استدعى الناس من الآفاق، فحضرت في من حضر. وكان الزحام كبيرا، فآواني ولده سيدي عبد الرحمن إلى غرفة خالية أطالع فيها ما شاء الله. وكنت للزحام من الكارهين، ولكن حين مضت برهة من الليل، جاء من الإخوان من ألزمني الجلوس مع الناس، فجلست إلى إخوان في قبة، والعود يصدح برناته، والحبور يخفق بأجنحته. فكان الشيخ يمر على القباب، حتى وصل القبة التي جلسنا فيها، فقال: أأنتم هنا؟ وفي أي شيء تفيضون؟
فقلت له:
-قد وجدتني مع هؤلاء الحضريين في مشادة، فإني لا أستحسن هذه الجلبة القائمة، وهذه الضوضاء التي تصك الآذان، وقصدي رنات المثاني والمثالث.

فجلس الشيخ إلي فقال:
-إنني وإياك لغريبان بأذواقنا وسط هذا الجم الغفير، فكثيرا ما كنت ألام على عدم إصاختي لما يسمونه غناء، وكثيرا ما أبناء أبناء فاس يقولون إنك بدوي لا تستحسن إلا الأغاني البدوية الجافة الجافية.
فقلتُ:
ليث شعري، أهذا هو بعينه هو الغناء الذي يذكره المؤرخون من زرياب وعن أستاذه الموصلي، حتى أنهم يقولون إن إسحاق بن ابراهيم الموصلي إذا ابتدأ الغناء في دار هارون الرشيد، يقف كل ذي شغل في مكانه ويذهل عن شغله مبهوتا، حتى يفرغ. فحينئد يتأتى لكل واحد أن يقبل على شأنه. فأين صوت أهل الغناء الأولين الرخيم الرقيق الرنان من صوت هذا الذي نسمعه الآن؟! كأن في حلقه بحة، أو كأنه مزكوم.

فقال الشيخ:
-كثيرا ما أقول إن كل غناء خرج من الشيب فإنه لا يستحسنه إلا بليد الطبع وجافي الأخلاق، ميت الشعور، فاتر العواطف!

فاسترسل الشيخ في هذا المسلك، وقد عاوده نشاط الشباب، والعيون إليه شاخصة، والآذان إليه مرهفة، وما حوله إلا خواص تلاميذه من الشباب. فصار يملي من المقطعات والأبيات حول الغناء والصوت الجميل الذي يبهر السامعين، ما سحر به أفئدتنا وأطاب به جلستنا… ومما حفظتُ من الشيخ تلك الساعة:

تصاممت إذ نطقت ظبية تصيد الأسود بألحاظها
ومـا بـي وقـر ولـكنني أريـد إعـادة ألفاظهـا…

ثم التفت إلى بعض الشبان الفاسيين، وهم معنا من المستديرن بالشيخ، فقال:
إن هذه الظبية، لا شك، غير فاسية، لأن ألفاظ الفاسيات فيها لثغة قبيحة لا تحمدها الآذان.

ثم جعل الشيخ يحاكي بصوته كيف تتلفظ الفاسيات محاكاة غريبة. فتمايلنا ضحكا من هذا الشيخ الوقور الذي لم يفته شيء، وهو مع ذلك لا يخرج عن وقاره ولا يعرف إلا التبسم.

فقيل له: أوليس أن ذلك إنما هو اللثغة المحمودة؟ ويصفها الشعراء.
فقال: إن اللثغة التي تستحليها الأذواق إنما هي مثل قلب السين تاء، وأما غيرها من الفافاء والجمجمة والغمغمة وما يشبهها فبعيدة من الاستحسان.
ثم أنشد لأبي نواس:
وشادن سألت عن اسمه فقال لي باللثغ عباث
بات يعاطيني سخامية وقال لي قد هجع الناث
أما ترى حش أكاليلنا زينها النثرين والآث
فصرت من لثغته الثغا فقلت أين الكاث والطاث…

فقال هذ اللثغة المحمودة التي هي للسامع بمنزلة السنابل التي تتخللها شقائق النعمان، كما قال عياض اليحصبي:
أنظر إلى الزرع وخاماته تحكي وقد ماست إمام الرياح
كتائبا خصراء مهزومة شقائق النعمان فيها جراح

قال: الشقائق التي تخلل سنابل الزرع بمنزلة هذه اللثغات التي تتخلل الكلام الرخيم. ثم قال لي:
-إنني وإياك وحدنا من يعرف كيف وصف القاضي عياض هندا، لاننا بدويان نشأنا بين المزارع، أما فلان (وأشار إلى بعض الفاسيين) فلم ير قط ذلك إلا لمحات، على أنه قلّ من يعرف من أبناء الحضر ما هي الزهرة التي تسمى شقائق النعمان.. فقال له بعضهم: بل نعرفها، فصار يصفها. فقلت أنا: إنه ربما كان ذا مزرعة في “شراكة” أو حول”صفرو”، فيتبدى أحيانا. فقال الآخر: حاشا أن أكون بدويا، وفي الحديث: “من بدا جفا”، فوقع الشيخ حول الحديث وأطال في موضوعه، فانزج أيضا فيما يقال عن المرسلين الذي لا يرسلون إلا من القرى، فأمضى في ذلك ما شاء الله.
————–
المختار السوسي -قطائف اللطائف في الحكايات والنوادر السوسية، ص. 156 -158.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *