يعيش سكان بلوك ج -13 في ظلّ الحِجر في رمضان للمرة الثانية. مجددا، تُقرّر الحكومة فرض الحظر ليلا. في هذا الحي الخلفي، كما في كامل المدينة والبلد، ستتقيّد الحركة وتُخنق الأنفاس وتُعدّ الخطوات.. تلك أحكام الجّايْحة، وما على الحكومة إلا التنفيذ. كلّ العالم يخضع لفيروس تافه. تعود إلى الأذهان ذكريات التجربة -الكابوس. مرة أخرى، يجد سكان البلوك، أو سْويقة المحاميقْ، أنفسهم “فاصْ أفاصْ” مع الحقيقة، حقيقة أنفسهم وحقيقة الآخر، الأخ والحبيب والزوّج والصديق والجار والعابر، في ظرفية استثنائية، والوبأ مستجدّ ومستبدّ..

عبّاس لعورْ واحدٌ من قاطني ديورْ 13. إسكافيّ (خْرّاز) وبائعُ سجاير بالتقسيط (الدّيطايْ) ووسيط عقاري (سْمسار) ومساعد تاجر ومرشد سياحي غير مرخّص وربما واشٍ ومُقدّم خدمات متنوعة. يقدّم عبّاس خدماته للقاطنات والقاطنين بدون مقابل، غير الله يْرحم الوالدين المأثورة. للعابرين يعرض خدماته ووساطاته مقابل ما يجود به الواحد منهم، حسب طبيعة الخدمة، من نسبة أو بقشيش أو هدايا وأكسسوارات أو حتى وجبات أو ما بقي منها أحيانا.. “سْبع صّنايع”، تستفزّه زوجه هْنيّة الكْعية، متقلّبة المزاج.. يعيش معها عْبيبيس مواقف غريبة ضمن أخرى، في حومة غريبة، خلطت تداعيات الوبأ أوراقها أكثر ممّا هي مخلوطة..

تابعوا معنا، طوال رمضان، هذه “الخالوطة” من الوقائع الغريبة في هذه الحومة الغريبة في أزمنة تحكمها جايْحة غريبة..

(ملحوظة: كلّ تشابُه في الأسماء أو الأحداث أو التواريخ بين ما يرد في هذه السطور والواقع هو من قبيل.. صدفة غريبة)    

ع. الرزاق برتمزّار

الحلقة الـ29

منذ واقعة صلاة التراويح توارى إلى الخلف ولم يعد يُرى إلا وحيدا أو في وقفته المسائية مع بّا صالح البْقال، خصوصا بعد صلاة العصر، إلى أن كانت أحداث القدس الأخيرة. بدأ الحاج الشقاوقاو يردّد بين البعض أنّ ما يحدث في فلسطين يستدعي هبّة جماعية من أجل التنديد بما يحدث هناك. لكنه لم يجد آذانا مصغية، كأنّ الجميع صاروا يحذرون منه أو من الاستماع إلى خطاباته، التي لا أحد يعرف من أين يستلهمها. ولم تكن أول الردود مشجّعة:

-أودّي نشوفو بْعدا هادشي اللي واقْع لينا حْنا وهْنا عاد نشوفو تمّ.. نلقاو الحلّ مع هاد الناس بعدا عاد نشوفو بعيد..

-إيّيه، وإيلى شفنا هْنا، قريبْ، في راسكْ راهوم منعو صلاة العيد فالمْصلّى وحْتى فالجّوامع؟

-في راسي أعمّي الحاجّ.. الراديو عْندي، كي تتعرفْ، ديما شاعْل والموجة عْل الأخبارْ..  إلى كانو مْنعو الصلاة في المْصلى والجّامْع يعني غادي يْكونو عارْفين علاش.. واش حْنا غادي نعرفو حسْن من الطْبيبْ؟

لم يتوقّع الحاج الشقاوقاو مثل هذه الرّدود، والأنكى ممن كان يظنّه الأقربَ إلى تصديق خطابه وتشجيعه على بثّه بين شباب سويقة المْحاميق ورجالها. تراجع خطوتين وألقى ، متحسّرا، سلام الوداع على صاحبه البقال.

-وعليكم السلام، عواشر مْبروكة ألسي الحاجّ. إلى ما شفتكشّ غدّا، ناوي نْسافر للبليدة نعيّد مْع الوالدة، نشا ع اللهْ.

لم يدعُه إلى المكوث قليلا، بخلاف عادته. “هو يدفعني، إذن، إلى المغادرة.. كأني بهؤلاء القوم لم يعد أحدهم يريدني بينهم”، راح الحاجّ الشقاوقاو يقول في سرّه، وهو يبتعد بخطوات متعثرة.

وأنا أسرع لأبلغ بقالة بّا صالْح قبل أن يغلق محله، وقد اقترب موعد أذان المغرب، اصطدمتُ بالحاج الشّقاوقاو وأنا ألفّ يسارا في اتجاه الحانوت. اعتذرت بكلمات قليلة وحركات، رغم أنّي لم أعتدْ على محادثته. لم أرتح إليه يوما رغم أنه حاجّ ويحرص على الصّلوات الخمس ويحترمه الجميع هنا ويكلّمونه. في البداية، لم أدرِ لنفوري منه سببا، إلى أن بدأت تنجلي الأمور وسرت أنباء عن أنه ينتمي إلى جماعة محظورة.

بعد واقعة صلاة التراويح، تراجع إلى خلف المشهد ولمْ يعد يُرى إلا لماما. شيء ما لا يزال غامضا في حياة هذه الشخص الغريب. هل كل الحجّاج هكذا؟ ما مشكله إن عاش مثلنا وتحمَل مثلنا تبعات هذه الجائحة المريعة التي قلّبت العالم رأسا على عقب؟ ولماذا لا أرتاح إليه؟.. سألت بّا صالْح، وأنا أتطلع إلى رفوف سلعه عساي أتذكر ماذا أتيتِ أشتري نته:

-ماذا كان يقول لك الحاج مرة أخرى اليوم؟ هل يريد إقامة صلاة العيد في المصلى؟

-أود ي يا ريتو بغى غيرْ يْقيم الصلاة فالمصلى أو حتى فالجّامع.. السَيد قال ليك بْغى يسانْد فلسطين!..

-بْغى يسانْد فلسطين؟! صافي، ساًنْد گاع هادو اللي عْندنا هْنا وخاصّاهوم المساندة! عْلاه أمَا فرْب: دْواورنا اللي مْنكوبين وفيهومْ اللي ما لقى حْتّى الما ديال الشّريب أو هاد دوار الحاج جراح أو ما نعرف؟

-أودّي هاد الناس ما باقي عرفناهم أش بغاو، لله يهديهم.. اللي بغى يتّضامن مع فلسطين يهز السّناحْ ويْمشي عندهم.. القضية رْكبو عْليها الساسة وْصحاب الدين باش يْلهفو حقهم من “لوزيعة” اللي كتّجمع باسم فلسطين مسكينة وهاد بوشعيب تابع “التضامن” والتنديد والخْوا الخاوي.. دابا إسرائيل إلى بغات تضرب شي بلاصة راه غادي تلعنْ الشيطان غير حيتْ حْنا تّضامنا واحتجّينا، الله يجيب هاد الماس عْلى خير وصافي.. وحتى ها جد الحاج الشقاوقاو، الله يردّ بيه، ما نعرف علاش ولّى يقلَب هاد ليامات..

لم يترك لي بّا صالح ما أقول. شرْح الوضع بكيفية واضحة ومختصرة: فلسطين الفلسطينيين.. وحتى هذا الحاج، الذي بدا لي دوما غريب الأطوار، وصفه بما يليق به: ما نعرف علاش ولّى يقلّب..وكدتُ أنسى عمّاذا جئتُ حانوته أقلَب، وفي الأفق حديث رائج عن أن الغد هو يوم العيد، واخّا يالاه غادي نكونو صمنا فيه، تاني، 29 يوم إلى عيّدنا غدَا! 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *