أعدها للنشر: المصطفى الحروشي

“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.

جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.

*لا تطلبوا مني أن أصمت     

بعد أن علمت بالفاجعة وعرفت أنه لم يتبق لي غير والدتي وأخوين وأخت، لم أجد من ردة فعل غير الصّمت، صمت طفل مصدوم، لا يعرف معنى الحياة والموت لكنه يعرف معنى الفقد.. وعرف للتو أن أخته الصغيرة المدللة، التي كانت تملأ المنزل شغبا، لن يسمع صوت ضحكاتها من جديد.. اللصة الصغيرة التي كانت تتوق للعب معه وتتحين فرصة غفلته لتخطف من يده قطعة حلوى أو حبة برتقالة نادرة في أوقاتنا تلك وتعدو هاربة، لتجبره على مطاردتها في أرجاء المنزل وهي تقهقه.. لم تعد موجودة! والأخت البتول، المربية العطوف الحنون، لم تعد موجودة.. والوالد، الذي كنت أستظلّ بظله وألجأ اليه في كل ضيق ليس موجودا. أشيائي الصغيرة.. ملابسي.. نعلي وحذائي.. كتبي ومحفظتي.. لم تعد موجودة.

في تلك اللحظة يريد المرء العاقل أن يعطّل كل حواسه، إن لم تعطّلها الصدمة.. أن يمحو كل ماضيه، فكل تفكير يعيده، ولو ساعة، إلى الوراء فكأنما يسقط جبل من الهموم والأوجاع فوق صدره ويخنق أنفاسه.

وإن كنت صبيا، ومنذ ساعة فقط كان لك منزل وأمان أب وحنان أم وعطف أخوات . واللحظة أنت تجلس مختبئا مرعوبا تحت ظل شجرة بلا عنوان ولا نعل ولا فراش ولا أب ولا أخوات، ستصمت صدمةً. رغما عنك ستصمت.. فإذا خطرت في بالك الشكوى فلمن ستشتكي. وإذا شعرت بالعجز وبكيت، فمن ستبكي؟.. أتبكي فقد الأب أم الأخت الصغيرة أو الكبيرة؟ أم تبكي فقد أشيائك الصغيرة، محفظتك، ألعابك، مدرستك، أصدقاءك؟..

إذا كثرت الأوجاع لا يجد الأطفال من ردة فعل غير الصمت.. لم يكسر جدار صمتي غير محرّكات السيارات العائدة لتقلنا إلى المجهول، الذي بدأ برحلة ليلية بلا أضواء إلى غابة أخرى في وادي وين سلوان، وصلناها بعد ساعات. ولم يكن معنا طعام ولا أغطية ولا مع من الجنود الذين يرافقوننا، كيف سيطعمون 700 مختطف وهم لا يستطيعون إشعال عود ثيقاب خوفا من أن تُكشف مواقعهم!؟

لم يكن مع والدتنا، ككل العوائل في القافلة، غير حضنها. فضمتنا إليها لتحمينا من البرد، وأعانتها الخالة صفية بلحاف. أما جوعنا وهمّنا فما بيدها غير أن تعيننا على النوم لننساه.

مرت تلك الليلة ونهار الغد ونحن تحت تلك الشجرة على هذا الحال، حتى عادت السيارات والشاحنات مساء لتقلنا في رحلة ليلية أخرى بلا أضواء. استمرت هذه المرة دون توقف حتى صباح اليوم التالي، حين وصلنا منطقة “لوتاد” في وادي إيرني في منطقة التفاريتي. وكالعادة، أُنزلنا تحت الأشجار وغادرت السيارات والشاحنات. لكنّ ظروفنا بدأت تتغير، فقد وجدنا الطعام والأغطية لأول مرة منذ ثلاثة أيام.

تلك الليلة تم تجميعنا خارج الوادي. وتم عرضنا على مجموعة من الصحافيين الأجانب أجروا لقاءات مع الشيوخ. وكنت الصبي الوحيد الذي أجرى لقاء صحافيا تلك الليلة مع إذاعة الجبهة. طلبوا مني أن أخبر والدي بأنني ذهبت مع والدتي بأنني معافى ولم يصبني أي مكروه.

بعد لقاء الصحافة، انطلقت القافلة في رحلة ليلية أخرى استمرت حتى صباح اليوم التالي. توقفنا للاستراحة، وبدون إجراءات احترازية بخلاف ما جرت به العادة، ما أشعرَنا نحن المتعبين من السفر، المثقلين بالهموم، بأن رحلتنا قاربت على النهاية. وفي تلك الليلة وصلنا مخيما صغيرا  جنوب شرق الرابوني مخصصا لاستقبال الوافدين الجدد على المخيمات، يسمونه “مركز الانطلاقات”. ففي المخيمات يسمون كل وافد جديد “المنطلق” والجمع انطلاقة، فسُمّينا “انطلاقة السمارة”.

ومهما كان الوصف التي وصفتنا به الجبهة، فرحلتنا إلى المخيمات كانت متعبة وشاقة ومخاطرة كبيرة واستهتارا بحياة مئات المدنيين. فجميع اأراضي التي مررنا بها منذ خروجنا من السمارة كانت ساحة حرب، لا يتحرّك  فيها غير الجنود. وكنا محمّلين في قافلة من عشرات السيارات والشاحنات العسكرية، ترافقها قوات مسلح ولا  توجد أية علامة تشير إلى أن في قافلتنا مدنيين.

وعلى امتداد رحلتنا، التي دامت أربعة أيام، كان الطيران الحربي المغربي يحلق في الأجواء، وكان يمكن ان نتعرض للقصف في أية لحظة وتقع مجزرة لا يعلم حجمها إلا الله، فما يفوق 700 مدني، أغلبهم نسا وأطفال، ليس بالرقم البسيط. وكادت كارثة من هذا القبيل تقع في منطقة “لوتاد” عندما مرت طائرة حربية فوق رؤوسنا على ارتفاع منخفض جدا إلى درجة أننا ظننا أنها لامست أغصان الأشجار التي نختبى تحت ظلالها..

أصبحنا، منذ 11 اكتوبر 1979، من سكان مخيمات العزة والكرامة للاجيين الصحراويين فوق التراب الجزائري، وتحولنا من مختطَفين إلى محرّرين من الأسر.

وعلمنا أن خيمة “الكرامة” أفضل من مدينة “الذلّ والعار”، التي كنا أسرى فيها. وصدّقنا لولا أنهم كذّبوا أنفسهم بعد ثلاثة عقود.

ومن نعم الجبهة وكرمها، وحتى لا يكون لي أكثر من يوم للحز أو  من سخرية الأقدار أن نفيي وإبعادي عن أسرتي تصادف مع يوم تحريري (6 اكتوبر 1979 -6 أكتوبر 2010)..

وللحكاية بقية…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *