أعدها للنشر: المصطفى الحروشي
“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.
جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.
*لا تطلبوا مني أن أصمت
تنبيه: لا أنصح ذوي القلوب الرحيمة بأن يقرؤوا هذه الحلقة.
بعد أن وجدتني والدتي المفجوعة تحت شجرة في وادي العصلي، أخذتني إلى الشجرة التي تركت تحتها أخوتي مع عائلة أهل سيد البشير، ولما وصلنا لم أر والدي وأختاي الكبرى والصغرى. سألت أخي الاكبر عنهم، فاغرورقت عيناه بالدموع، ففهمت أن أمرا جلل قد وقع في غيابي. وبعد إلحاح مني، أخبرني بما حدث:
بعد أن بدأت القنابل تتساقط على الحي، هرعنا إلى داخل المنزل وألج باب غرفة الجلوس حتى وقع انفجار ضخم زلزل المنزل وتساقط الركام فوق رؤوسنا ولم أعد أرى غير الدخان والغبار، قبل أن تسقط كتلة إسمنتية على رقبتي ويغمى علي برهة.
بعد أن استفقت وجدتني عند باب البيت وأختى الصغيرة المعلومة قربي واقعة على الارض يسيل الدم من رأسها وتصدر شخيرا. ثم التفتّ إلى الداخل وإذا بالوالد واقف قرب النافذة ووجهه وملابسه تغطيها الدماء، وفي جهة “البيفة” الوالدة تضمّ إليها أختنا فالة والغالية منت المصطفى وتحزم الحافظ فوق ظهرها.
تقدم إلي الوالد وأزحنا المعلومة الصغيرة من جهة الباب وكانت قد لفظت أنفاسها الأخيرة. وقريبا منها في البهو ظهرت لنا أرجل تحت الركام. ظن الوالد أنه أنت، قبل أن نزيل الركام ونعرف أنها أختنا الكبرى البتول وقد توفيت هي الأخرى. وفي الجهة الاخرى جثتان أخريان، واحدة لابنة عمنا منت اشويخ وقد بقرت شظية بطنها وسقط جنينها بجنبها في كامل هيئته، والأخرى لأخيها الصغير البشير ورأسه مفصول عن جسده.
جمعت أنا والوالد جثث وأشلاء الشهداء الأربعة وغطيناها، قبل أن نُخرج بقية العائلة من المنزل، فقد قال إنه لا يريد أمنا الحامل والأولاد أن يروا تلك الصور البشعة. ثم أخرجنا الوالدة والأطفال، وكانت قد علمت بما وقع، لكنك ما زلت مفقودا.
أخذت الوالدة وفالة والحافظ الذين بقوا على قيد الحياة إلى منزل خالتنا صفية منت العربي، أم عائلة محمد عالي ولد سيد البشير. ثم عدت إلى المنزل لأساعد الوالد في البحث عنك. ولم اجد في المنزل غير الجثث الأربع التي تركتها مغطاة منذ دقائق، فخرجت أبحث، لأجده في الجوار يسأل الناس هل من أحد رآك ولديه أي أخبار عنك.
في تلك اللحظة توقفت قربنا سيارة العامل حبّوها ومعه الشيخ إبراهيم ولد احميم وسيارة اسعاف. طلبوا من الوالد أن يركب معهم ليوصلوهإلى المستشفى لكنه اعتذر بأنه لا يستطيع الذهاب قبل أن يعرف مصير ابنه. وكان جرحه ينزف كثيرا وملابسه حمراء من الدم، فأجبروه على الذهاب معهم في سيارتهم، وحملوا جارنا الشيخ علي ولد محمد، الجريح هو الآخر، في سيارة الإسعاف التي كانت ترافقهم.
بعد أن ذهب الوالد عدت إلى الوالدة عند أهل سيد البشير وأخبرتها بأنهم أخذوه إلى المستشفى وبأننا لم نعثر عليك بعد. وبعد فترة، سمعنا طرقا قويا تبعه خلع لباب دار أهل سيد البشير ودخل جنود الجبهة وطلبوا منا الخروج والصعود في سياراتهم المصطفّة أمام المنزل وأتوا بنا إلى الوادي.
لما وصلنا الوادي طلبت مني الوالدة أن أرافقها لتسأل الناس تحت الأشجار هل فيهم من رآك، فلم تقنط من أنها لن تراك ثانية.. وها نحن قد عثرنا عليك.
وحسب رواية الوالد، فإنه بعد وصوله الى المستشفى، تعرض الأخير للقصف أيضا، قبل أن تتم معالجته حتى. وأغمي عليه ساعات. ولما استفاق قبل المغرب بقليل لم يجد أحدا في المستشفى المحطم، وكان يتألم كثيرا ولم يستطع الحركة حتى جاءه عمار اضريس، وكان أول من أخبره بأن الجبهة أخذت كل أهل أربيب، بمن فيهم من تبقى من أسرته، وبأنه تم دفن بناته والشهداء الذين سقطوا معهم في مقبرة المدينة. فطلب منه الوالد أخذه إلى منزل أهل الوالي في السمارة، حيث أمضى يومين بلا حراك، تعالجه والدتهم، الواعرة، وتنزع بقايا الشظايا من عينه التي سيفقد البصر بها، كما فقد بناته وبقية أفراد أسرته وأقاربه وأصدقائه ومنزله، وصار وحيدا.
مهما حاولت أن أصف شعور والدي في ذلك الوقت فلن أستطيع. وعندما أسأله يقول باختصار: كنت رجلا تجاوز الخمسين فقدَ كل شيء في لحظة، والوكيل الله.
أما الوالدة فلم أسألها يوما عما وقع، حتى لا أنكأ جراحها.
رحم الله الوالدة وجميع موتانا وموتى المسلمين ومد في عمر الوالد، الذي ما زال يعيش في مدينة السمارة ولا يحب أن يذكّره أحد بذلك اليوم الذي فقدَ فيه كل شيء.
وللحكاية بقية…