يعيش سكان بلوك ج -13 في ظلّ الحِجر في رمضان للمرة الثانية. مجددا، تُقرّر الحكومة فرض الحظر ليلا. في هذا الحي الخلفي، كما في كامل المدينة والبلد، ستتقيّد الحركة وتُخنق الأنفاس وتُعدّ الخطوات.. تلك أحكام الجّايْحة، وما على الحكومة إلا التنفيذ. كلّ العالم يخضع لفيروس تافه. تعود إلى الأذهان ذكريات التجربة -الكابوس. مرة أخرى، يجد سكان البلوك، أو سْويقة المحاميقْ، أنفسهم “فاصْ أفاصْ” مع الحقيقة، حقيقة أنفسهم وحقيقة الآخر، الأخ والحبيب والزوّج والصديق والجار والعابر، في ظرفية استثنائية، والوبأ مستجدّ ومستبدّ..

عبّاس لعورْ واحدٌ من قاطني ديورْ 13. إسكافيّ (خْرّاز) وبائعُ سجاير بالتقسيط (الدّيطايْ) ووسيط عقاري (سْمسار) ومساعد تاجر ومرشد سياحي غير مرخّص وربما واشٍ ومُقدّم خدمات متنوعة. يقدّم عبّاس خدماته للقاطنات والقاطنين بدون مقابل، غير الله يْرحم الوالدين المأثورة. للعابرين يعرض خدماته ووساطاته مقابل ما يجود به الواحد منهم، حسب طبيعة الخدمة، من نسبة أو بقشيش أو هدايا وأكسسوارات أو حتى وجبات أو ما بقي منها أحيانا.. “سْبع صّنايع”، تستفزّه زوجه هْنيّة الكْعية، متقلّبة المزاج.. يعيش معها عْبيبيس مواقف غريبة ضمن أخرى، في حومة غريبة، خلطت تداعيات الوبأ أوراقها أكثر ممّا هي مخلوطة..

تابعوا معنا، طوال رمضان، هذه “الخالوطة” من الوقائع الغريبة في هذه الحومة الغريبة في أزمنة تحكمها جايْحة غريبة..

(ملحوظة: كلّ تشابُه في الأسماء أو الأحداث أو التواريخ بين ما يرد في هذه السطور والواقع هو من قبيل.. صدفة غريبة)    

ع. الرزاق برتمزّار

الحلقة الـ27

باقتراب الشهر من النهاية وبداية الحديث عن العيد، ومنذ بداية الأيام العشرة الأخيرة، تشهد سْويقة المحاميق حركة زائدة وازدحاما ما يفتأ يشتدّ يوما بعد آخر. ففي العشر الأواخر كلّ يغني على  ليلاه..  فمن الناس هنا من يزيد إيمانهم ويتقوّى خشوعهم وتخشّعهم وهم يؤدّون الصلوات، وخصوصا وهم يتضرّعون إلى الله ويدْعون، طمعاً في أن يتصادف أحد هذه الأدعية والأمنيات مع اللحظة المعلومة في “ليلة القدر” التي تُفتح فيها أبواب الرحمة فيُستجاب.. ومنهم من تزيد لهطتهم وطمعهم في جني مزيد من الأرباح، ببيع “حْوايج العيد” لفقراء الأحياء الخلفية، الذين لا يشترون ملابس جديدة إلا في العيدَين.. ثم منهم من يبيعون شيئا آخر لا يُؤكل ولا يشرب ولا يُلبَس..

محل بّا الغرباوي واحد من أقدم محلات سويقة المحاميق، وإن كان لا يكاد ينتبه إليه أحد طوال أيام الله إلا العارفون والعارفات تحديدا، فجلّ زبائنه من النساء، حتى لا نقول كلهنّ. فجأة، تعود الحياة إلى محلّ العطاوة ذاك وإلى وجه مالكه الوحيد، في مدخل درب أبي ذر الغفاري، المتفرّع عن الشارع الرئيسي حيث ساحةُ السوق. 

ارتبط هذا المحلّ في ذاكرتنا بأحداث وحوادثَ خلقت جزءا  غامضا من تاريخ بلوك ج -13، بل “خلقت” أشخاصا كبر بعضهم الآن وصاروا شبابا في مقتبل العمر وشابّات، يعاركون الحياة في أولى تجاربهم واختباراتهم.

في العادة لا يجذب هذا الحانوت، الضيّق والفوضوي والمسكون بروائحَ غريبة ومُنفّرة، انتباه أحد على امتداد أيام وشهور السنة، لكنْ ما إن تلوح مناسبة مثل هذه حتى يستعيد وجه بَا الغرباوي بعض بشاشته، التي هجرته منذ وفاة زوجته السعدية باريق، التي صنعت بريق أيامه ولياليه، قبل أن ترحل فجأة وتخلّف حسرة عميقة ويأسا في قلبه وروحه وكامل كينونته الهرمة المفجوعة.. صحيح انها لم تمنحه ولدا كما كان يريد، لكنْ منحته طفلتين مثل البلّور أسعدتا عشّهما، قبل أن تتزوجا بشقيقين في دولة أجنبية وترحلا إلى الأبد من السّويقة. ورغم أنهما كانتا تأتيان، وفي الغالب في الفترة ذاتها، وتمكثان معهما أسبوعين أو ثلاثة، فقد انحسرت السعادة عن بيت بّا الغرباوي والسعدية باريق منذ زواج ابنتيهما ورحيلهما. ثم زاد البيت حزنا وكآبة بعد وفاة السعدية سنوات قليلة بعد زواج ابنتيها.

كانت تجارة بّا الغرباوي مزدهرة في بدايات الحومة، إلى درجة أنه صار “مرجعا” في خريطة البلوك، إلى درجة أن كثيرين حين يريدون أن يدلّوا شخصا غريبا عن الحي على مكان  ما في السّويقة يقولون له “حْدا حانوت العطّار، اِسأل عن بّا الغرباوي وستجد الجميع يدلونك عليه”.

ورغم تراجع تجارته وإلحاح بنتيه عليه أن يقفله ويرحل معهما، ليهنأ بما تبقّى له من أيام في كنفهما في بلدهما الجديد البعيد، فقد رفض بّا الغرباوي مفارقة حانوته، بل وحتى تغيير تجارته. فطالما قالت له ابنتاه إنه ما من أحد بعدُ يسأل عن قاع قلّة وبْسيبيسة ولسان الطير وورقة سيدي موسى، التي استعاض بها عمّا صنع مجده أيام العز، من لسان الضّبع إلى مخّ الحْمار وزْغب الفار ليتيمْ وكبدة تيقليت العْزبة. 

حين رأيت، بين من رأيت، خدّوج الصّوطة وْهنية الگانة تعرّجان على مدخل الزقاق رغم أن الوقت مبكر جدا عن وقت التبضّع، خمّنت أن وجهتهما حانوت بّا الغرباوي، وإن لم أتبعهما، على عادتي حين أشك في أمر ما، حتى أتأكد.. لكنْ إن هي إلا ساعات، حتى جاءني وجاء السويقةَ كلها بالأخبار من لم نزوّد:

-وا سيري الله ينعلْ اللي ما يحشمْ.. دابا نعصي فيه الله ونخطى فيه تاني، أش من جاوي وَلا صلبانْ ولا النّبك!؟ وْاللهْ وْما طفيتي عْليّ داك المجمرْ حتى نخويهْ ليك فوگ راسك..

كان ذلك صوت الشريف الحوات، وفي الوقت ذاته سُمع صوت عبيبيس يزفر بأنفاس متقطَعة:

-واسيري ياتا ضْربي الفگدْ فراسك، اشّ من تْفوسخي الدّارْ ولا تخرايْها.. أش من تفوسيخ ولا نمّ! باقي شي واحد كيآمنْ بهاد الخزعبلاتْ، من غيرك فهاد البلاد!؟

وفي خضمّ ذلك، ارتفعت الأصوات في المنزلين وتداخلت واحتدّت، في مسلسل متواصل منذ سنوات حول ظاهرة “المْجمر”، التي من حسن حظنا في البلوك أن البعض ما زالوا قادرين عْلى تحريك ألسنتهم في أفواههم للاعتراض عليها والاحتجاج…

في الحقيقة، تعاطفت مع صديقَيّ عبيبيس والشّريف من منطلق آخر، سرعان ما زكّاه الأول وهو يصرخ بأعلى صوته:

-واش أعبادْ الله دارْ اللي تيكمي الكيفْ محتاجة شي تْفوسيخ؟ راكي كتّفوسخي كلّ نهار بريحة العْشبة! إيوا طفي عْليّ هاد الزّمر قبل ما ننوض نشقّفو ليك عْلى راسك…  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *