أعدها للنشر: المصطفى الحروشي

“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.

جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.

*لا تطلبوا مني أن أصمت

كنا نسكن في مدشر أربيب”، وهو حي تأسس في الجهة الغربية من السمارة من الأسر التي نزحت الى المدينة من البوادي عند اندلاع النزاع في نهاية 1975.

كان “أربيب” في بدايته عبارة عن خايم وبعض البيوت القصديرية متناثرة في وادي أربيب، قبل أن يبدأ الناس في بناء منازل إسمنتية ويتحول الحي، تدريجيا، إلى مدينة افتُتحت فيها مدرسة أواخر 1976 ومستوصف، وبدأنا نعرف مظاهر وحياة المدينة.

أنشئت مدينة أربيب على طول الوادي، ما جعل أطرافه الشمالية والجنوبية متباعدة نسبيا، تغيرت معها العلاقات الاجتماعية من علاقات أسرية إلى علاقات جيرة، فصرنا سكان منطقة جنوبية وأخرى شمالية، بعد أن كنا أهل فلان وأهل فلان. وانقسم أطفال المخيم القديم بين الجهتين، وأصبح لكل جهة فريقها ومشاغبوها في مباريات كرة القدم، التي تُجرى أغلب المساءات في الطرف الشمالي للحي. وأحيانا يتشاجر أبناء الجهتين ويتحول ليل الحي كله إلى حرب شوارع أطفال، تستحيل مع الصباح إلى قصص نرويها وكأنها من عهد قديم ولا تأثير لها على علاقات أطفال يجمعهم القسم الدراسي وروابط الدم والجيرة.

كانت حياتنا بسيطة وعادية، ككل الأحياء الشعبية الناشئة التي يتصارع فيها الماضي والحاضر ويكافح كل أهلها من أجل تأمين لقمة العيش وتحقيق أفضل الظروف للاستقرار في جو مدينيّ يسحبنا إليه لنغرق في بحر متطلباته، التي لا تنتهي. ونرتحل، على عادة حياة البادية وبساطتها التي ميزت سنواتنا الأولى. حتى أنه صارت لنا شاحنة خبز تأخذ عجينة نساء الحي في الصباح المبكر إلى فران السمارة وتعود بها في المساء مطهية، ونسينا نار ودخان حطب البادية.

كنا، أخي وأنا، من أوائل أطفال أربيب الذين التحقوا بمدرسة السمارة (السكويلة) التي تبعد عنا بحوالي ثلاثة كيلومترات. وكان كل طاقم مدرستنا من أبناء داخل المغرب، ما عدا المدير، أحمد ولد لخريف، وسيدي ولد بوه، الأب الطيب المشرف على وجبات الفطور الصباحي.

في إحدى ليالي خريف 1979 الباردة، انهينا، أخي وأنا، مراجعة بعض الدروس في الصالون، قبل أن ننضمّ إلى بقية أفراد العائلة لتناول العشاء، ثم يأوي كل إلى فراشه، فعلينا ان نستيقظ مع طلوع الفجر لنتحضر لرحلة الثلاثة كيلومترات، التي نقطع يوميا إلى  المدرسة (السكويلة) على أرجلنا، وكنا قد دخلنا الشهر الثاني من الصف الخامس. فجر يوم 6 أكتوبر 1979، استيقظنا على أصوات الرشاشات والقذائف. ولما خرجنا إلى بهو المنزل، بدت لنا نجوم السماء في الظلام الدامس وكأنها تصارع بعضها بعضا. موجة من الشهب تأتي من جهة الغرب ما تلبث أن تتلاشى في جهة الشرق. ويتكرر المشهد نفسه من سماء الشرق نحو الغرب، وأحيانا يخيل ألينا ان الشهب تتصادم في منتصف السماء وتختفي.

لم نكن حديثي عهد بصور الحرب، ففي السنوات والشهور الماضية كنا نسمع، بين الفينة والأخرى أصوات المدافع. وأحيانا تسقط بعض القذائف وسط حينا. وسبق ان خلفت ضحايا من الأهالي. ولكن ذلك الفجر كان مختلفا. فلأول مرة تتحول سماؤنا الى شهب متطايرة في كل الاتجاهات، ونسمع أصوات معركة ولا نرى منها غير حرب نجوم في السماء.

وما لبثنا أن انسجمنا مع الحدث وزال عنا الروع وخرجنا من المنزل لنجد أننا لم نكن لوحدنا من يرقب المشهد، فكل سكان الحيّ خارج المنازل وأعينهم إلى الأعلى يشاهدون ما يحدث في سمائنا، والأطفال يتنقلون بين هذا الجمع وذاك تشير أصابعهم الصغيرة إلى هذا النجم الطائر وذاك، وكأنّ الواحد منهم اكتشف ما لم يكتشفه الآخر فيُريه إياه.

وشيئا فشيئا بدأ الصبح في الانبلاج، ومع كل شعاع ضوء جديد، تبهت صور النجوم المتصارعة في السماء ويخفت وهجها وتقترب أصوات المدافع والانفجارات منا. لم نتأخر كثيرا حتى سقطت أولى القذائف في منطقة المطار الذي يفصل بيننا وبين السمارة، تبعتها قذائف أخرى أشعلت بعض الحرائق في المطار. وفجأة، بدت القذائف المتساقطة من السماء تتراجع من المطار، لتصل اطراف حينا الشرقية. ثم بدأت تتساقط بين المنازل، فهرعنا إلى الداخل للاحتماء بالجدران من الشظايا التي تتطاير من الانفجارات. وكنت حينئذ مع مجموعة أطفال قرب منزل جيراننا، فدخلنا منزل خطري ولد محمد مولود (دداه) القريب منا.

خيم الرعب على جميع من في المنزل، بعضهم يتلون الأدعية والبعض صامتون في حالة ذهول وصدمة من هول أصوات الانفجارات القوية المتتابعة وزلزلة الجدران التي نحتمي بها، والغبار الذي يتناثر فوق رؤوسنا مع كل هزة. وبعد ساعة أو يزيد لم عد نشعر بالهزّات الأرضية، رغم ان أصوات القذائف لم تنقطع. كنت متسمرا في ركن من أحد بيوت منزل أهل دداه مع من فيه من أبناء عمّي، وعقلي شارد أنتظر اللحظة التي سأهرع فيها إلى أبي وأمي في منزلنا المجاور. وما إن خفّت الانفجارات وخرج أول الأشخاص من المجموعة التي كنت معها،  حتى أسرعت إلى منزلنا أريد الاحتماء بأبي وأمي.

كان أول ما وقعت عليه عيناي بعد خروجي هو باب مزلنا الحديدي المرمي على بعد عدة أمتار. والتفت لأجد المنزل وقد تحول إلى ركام من الإسمنت، ومسامير مدلاة من بعض جوانبه. ولم ألحظ فيه أية علامة على الحياة.

في تلك اللحظة رأيت ابنة عمي أم السعد التي تقطن معنا في المنزل تجري ممسكة ابنيها محمد لمين ومحمد فاضل، فجريت خلفهم، قبل أن ألحق بهم في مكان رملي تجمّع فيه بعض سكان الحي هربا من القنابل والبنايات التي تتساقط على رؤوس من احتموا بها.

بعد وصولنا إلى الجمع جاءت سيارات “لاندروفر” تابعة للجبهة. أفرغوا بعضها من الجنود وحمولنا فيها إلى خارج المدينة في اتجاه الغرب.. كانت الرحلة إلى خارج المدينة كلها رعب، فالرصاص كثيف والقنابل تتساقط من حولنا، ومشاهد السيارات المحترقة ((وأشلاء وجثث الجنود في كل مكان))، حتى وصلنا وادي العصلي وطلب منا النزول و الاختباء في ظلال الأشجار.

أذكر أني كنت أجلس مع بعض النساء والأطفال تحت إحدى الأشجار، ولا أذكر ما كان يجول بخاطري وقتئذ، كل ما أعرفه أني لا أرى أحدا من أفراد أسرتي بالقرب مني وأني بعيد عن المنزل وأن آخر الصور التي شاهدتها هي صور سيارات محترقة وجثث متناثرة على طول الطريق.

وفجاة يظللني طيف أمراة يحول بيني وأغصان الشجرة، فرفعت رأسي لأجد والدتي تمدّ يديها لتحتضنني كما لو أنها لم ترني منذ زمن طويل شعرت بها تضمّني إليها وتهمهم ببعض الكلمات المبحوحة لم أميزها. حدّقت في وجهها لعلي أسمع شيئا مما تقول، فلم أتبين غير وجهها كأنه لوحة سوداء تتوسطها عينان شاخصتان تملؤهما الدموع. فقد كان فقدي أخفّ وجعها ذاك اليوم، ولم أكن أدري.

وللحكاية بقية..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *