بقلم : يونس التايب

 

لا شك أن تكالب بعض الدول ضد مصالح المغرب، خلال السنوات الأخيرة، جاء كرد فعل على حيوية دبلوماسية بلادنا وسعيها لتعزيز التعاون الاقتصادي جنوب – جنوب مع الأشقاء الأفارقة، لتحقيق طموحات تنموية مشروعة تعزز تنافسية الاقتصاد الوطني وجاذبية المجال التي يوفرها الموقع الجغرافي المحوري للمغرب في شمال إفريقيا.

 ولا شك، أيضا، أن توقعات بشأن ثروات طبيعية تم رصدها بشكل علمي مضبوط (حقول غاز و جبل تروبيك، نموذجا)، حركت أطماع كبريات الدول التي لا ترغب في بروز منافس جديد في هذه المنطقة من العالم.

 لذلك، أصبح المغرب هدفا أساسيا بالنسبة لعدة دول صارت تتابع كل صغيرة وكبيرة في تحركه الخارجي، وفي واقعه الداخلي على المستويات السياسية والحقوقية، بغية إيجاد أي نقطة ضعف أوخلل قصد تأويله خارج سياقه و استغلاله للتحريض ضد المغرب، والضغط عليه إعلاميا كي “يجلس إلى الطاولة” ويتنازل عن سيادته الوطنية في اختيار ما يناسبه من شراكات اقتصادية واستثمارات، أو في اتخاذ ما يراه مناسبا له من قرارات سياسية و مواقف دبلوماسية.

لكن الذي أثار الانتباه مؤخرا، هو أن النزوعات العدائية الواضحة ضد بلادنا تكاثرت، وأصبح عدة مؤشرات تبين وجود تنسيق بين عدة أطراف ودول تسعى إلى تحقيق نفس أهداف النيل من سيادة المغرب ومصالحه. وإلا كيف يمكن أن نفهم أن دولة كألمانيا، لم يكن بيننا و بينها سوى الخير والإحسان، قررت عدم التعاون مع المغرب في ملفات أمنية مرتبطة بشبهة الإرهاب رغم توفر دلائل واضحة، وانضمت إلى حلف الكيد لمصالح المغرب بشكل غير منتظر وغير مفهوم، مباشرة بعد تقاربها مع النظام الجزائري واستقبالها للرئيس تبون في رحلة علاجية دامت عدة أشهر، استغلتها أجهزة الاستخبارات الجزائرية لتنسج خيوط مصالح قوية مع لوبيات اقتصادية ألمانية ضاغطة، وإعداد مشاريع متنوعة، خاصة في مجال الطاقة الشمسية، لفائدة شركات ألمانية كبيرة مؤثرة على القرار السياسي في برلين ؟!.

 وكيف لا نربط بين ذلك وبين المواقف الاستفزازية المستمرة التي تصدر عن جيراننا في الشمال والشرق، سواء في قضية دعم الانفصاليين أو في مسألة التغاضي عن متابعة مجرم الحرب إبراهيم غالي من طرف القضاء الإسباني نكاية بالمغرب، انتقاما منه لأنه قرر تعزيز بنيته اللوجيستيكية المينائية (ميناء طنجة و ميناء الناضور)، و وقف نشاط التهريب الذي كان يدر ملايين الدولارات على سبتة و مليلية و يدمر عددا كبيرا من الشركات المغربية، و قام ببسط سلطته على مياهه البحرية على الواجهة الأطلسية بما يعنيه ذلك من إمكانية استثمار ثرواته الباطنية في المنطقة ؟!.

شخصيا، كتبت عدة مرات، بأن بلادنا مستهدفة بشكل سافر، لكنني أشعر اليوم أن الكيد والاستهداف قد تحول إلى حروب صامتة على عدة جبهات، وهو ما يستوجب، في رأيي، أن نخرج كمثقفين وسياسيين ومتواصلين، بشكل عام، من حالة التتبع السلبي في صمت، ونساهم في تعبئة وطنية استثنائية للدفاع عن بلادنا، و تقديم الدعم سياسيا وإعلاميا وشعبيا لجهود الدبلوماسية المغربية في دفاعها عن قضايانا الوطنية، ومساندة لها في ما تقوم به من تدبير شجاع وحكيم لعلاقات بلادنا الدولية، بتوجيهات ملكية سامية تطبعها الغيرة الوطنية و الاستباقية والحرص على خدمة مصالحنا الإستراتيجية في ظرف دولي معقد.

إن دقة الظرف الدولي هاته، تفرض على الفاعلين السياسيين والاقتصاديين والاجتماعيين وعلى المثقفين والمؤثرين الجادين المغاربة، أن يتحلوا باليقظة والمسؤولية وأن يتحركوا بذكاء استراتيجي، ويلتزموا بتيسير التنزيل السريع و النزيه لكل الأوراش المؤسساتية والتنموية التي تقوي قدرات الدولة المغربية، وتعزز إمكانياتها ومواردها، في مواجهة مؤامرات بعض القوى التي يبدو أنها أصبحت تحن لماضيها الاستعلائي الخبيث.

في هذا الصدد، وأنا أطالع بلاغ وزارة الخارجية ليوم 6 ماي، الذي أعلن فيه عن استدعاء سفير المملكة المغربية بألمانيا للتشاور، تذكرت صورة نشرت في وسائل إعلام عالمية عن أجواء لقاء احتضنته العاصمة الألمانية برلين، يوم 19 يناير 2020، بهدف إيجاد تسوية للملف الليبي.

الصورة بقيت في ذاكرتي لأنها وثقت منظر قادة كبار، وهم كالجالسون حول “قصعة” طعام، وأعينهم تبحث عن كيفية تصيد ثروات ليبيا التي ضعفت فيها الدولة بفعل صراع الفصائل منذ سقوط الديكتاتور السابق معمر القدافي.

وقد كانت دلالات الصورة قوية بشكل جعلها تنتشر في مواقع التواصل الاجتماعي بتعليقات أظهرت أن الرأي العام أصبح واعيا بما تخفيه النيات المبيتة لبعض القوى الكبرى، التي لا علاقة لها بخطاب “الدفاع عن الديمقراطية”، و حرص “الرأي العام العالمي” على “احترام حقوق الإنسان” و”الحرية وحقوق الأقليات”.

 وتذكرت، أيضا، كيف أن الحكومة الألمانية تجاهلت الدور الكبير الذي لعبته المملكة المغربية، ولم تستدع بلادنا لحضور لقاء برلين. و ربما كان في ذلك خير، لأننا تجنبنا أن نكون شهودا على فشل جديد انضاف إلى فشل غالبية المبادرات الديبلوماسية السابقة التي حاولت ألمانيا القيام بها دوليا، حيث انتهى لقاء برلين دون تحقيق شيء يذكر لمصلحة الشعب الليبي، على عكس جهود المغرب الذي سجلت تراكما إيجابيا بفضل دبلوماسية صادقة أثمرت اتفاق الصخيرات، ثم نجاحات لقاءات طنجة.

لسوء حظ برلين، أو ربما لسوء نيتها، نسي العالم بسرعة المبادرة الألمانية أياما قليلة بعد اللقاء، وانتقلنا إلى التركيز على الأزمة الصحية العالمية، التي أظهرت وعيا جديدا بأن مقومات القوة يجب أن تكون وطنية صرفة، مستندة لما يستطيع أبناء كل بلد فعله دفاعا عن مصالحهم وتدبيرا لمواردهم و حلا لمشاكلهم، و إلا سيكون مصيرهم هو الضعف والارتهان للقوة الاقتصادية والعسكرية والتكنولوجية لدول كبرى تخفي وراء الكلام الدبلوماسي الناعم، قسوة وعنف صراعها حول مصالحها الذاتية.

وقد تبين بفضل الأزمة الصحية، كيف أن القوى العالمية تركز على تعزيز قوتها لحل مشاكل شعوبها في مواجهة الوباء و تردي الوضع الاقتصادي، وكيف أن ترتيب أولوياتها يتم بحسب مصالحها الإستراتيجية، ولا يتم اللجوء إلى ورقة “حقوق الإنسان” و “دعم الديمقراطية” إلا عندما يكون المراد هو الضغط على الدول المستهدفة لاستغلال نقط ضعفها على المستوى الحقوقي أو السياسي، وخلق البلبلة و تشتيت وحدة الصف الداخلي لديها، وإنهاك قدرتها على الصمود و المنافسة في سوق الاقتصاد و المال.

ولا شك أن المغرب معني و مستهدف بمثل تلك السياسات التي تمارس الابتزاز والتدخل في الشؤون الداخلية للدول، وتحريض بعض ضعاف النفوس ضد أوطانهم. ولأن التاريخ يبين أننا، حين نتملك عناصر الاستقرار و كامل سيادتنا على ترابنا الوطني، نكون قادرين على قيادة مشروعنا التنموي

بشكل سيادي، والدفاع عن إشعاع الأمة المغربية التي لم تستكن أبدا لاستعمار أجنبي، و لا قبلت يوما أن يعبث أي محتل بمقدراتها وخيراتها، و أمام تكالب العدوان كانت تمرض ولا تموت، تتراجع و لا تنهزم، تضعف ثم تعود أقوى مما كانت. وهذا بالضبط هو ما يخيف دول الجوار الشرقي والشمالي، وكل من يسير سيرهم من القوى التي تحلم بوضع يدها في هذه المنطقة بحثا عن مصالحها الاقتصادية و الجيوستراتيجية.

لكل ذلك، في مرحلة دقيقة كالتي نمر منها، يجب أن نتصرف بذكاء وحكمة كبيرين من خلال ترتيب جيد لأولوياتنا، وتركيز على تقوية مجتمعنا و حفظ كرامة المواطنين وصيانة حقوقهم، وتعزيز هيبة الدولة عبر تطبيق القانون وفرض سموه على الجميع، و مضاعفة الجهود لبلوغ أعلى درجات النمو الممكنة و رفع وتيرة التنمية المدمجة، وتطوير حكامة تدبير الموارد العامة، حتى نستثمر جيدا ما نمتلكه من مقومات لتعزيز قوة وطننا ومناعته، وننطلق لصناعة مستقبلنا بأنفسنا في مواجهة الأثار القوية لانعطافة كبيرة سيشهدها العالم على المستوى التكنولوجي والمعرفي والاقتصادي والمالي والعسكري والبيئي والديموغرافي بشكل غير مسبوق منذ الحرب العالمية الثانية.

كما أن المسؤولية السياسية تدعونا إلى تعزيز التواصل مع مواطنينا وشرح حقيقة كيف أن خطابات “الحقوق و الدفاع عن الديمقراطية” التي تدفع بها بعض القوى والمنظمات الدولية، هي حق أريد به باطل، و ن ذلك جزء من “لعبة المصالح” في علاقات الدول الكبرى. بمثل ذلك الوعي سيتبين لكل الغيورين أن الأجدى هو بناء شراكة وطنية على أساس عقد اجتماعي و أخلاقي جديد، نؤطر به سعينا لتطوير مكتسباتنا السياسية والحقوقية من منطلق مغربي سيادي صرف، بعيدا عن السياسوية المقيتة و لغة التحريض ضد مؤسسات الوطن، و بعيدا عن لغة الابتزاز من أجل الحصول على مكاسب فئوية بئيسة، و بعيدا عن منطق الاستقواء بجهات أجنبية لا تخدم سوى مصالح أوطانها و لا يهمها مستقبل الشعب المغربي، و لا مستقبل باقي شعوب العالم، في شيء.

وحتى ننجح في مواجهة المتآمرين، يتعين أن لا نضيع يوما واحدا دون تصحيح ما يستحق التصحيح، وتقويم ما يحتاج إلى تقويم، ومعالجة الاختلالات الموجودة في واقعنا، كي نقوي جبهتنا الداخلية ونصون جميعا أغلى رصيد نمتلكه وهو وطننا المغرب، و دولتنا بكل مؤسساتها وأجهزتها الساهرة على حماية أمن البلاد والعباد، و رأسمالنا البشري المشكل من أبناء شعبنا الذين يطلبون الإدماج الاجتماعي والاقتصادي والثقافي والمعرفي، و يريدون تأهيل قطاعات الخدمات من صحة وتعليم، ويطمحون إلى سياسات عمومية قطاعية تحفز الاستثمار و خلق الثروة وتعزز الاقتصاد الوطني، و تحارب الهشاشة و البطالة. 

ولأن الوقت يضغط بقوة، علينا أن نسير بسرعة في هذه الطريق، بغية تجديد الثقة و تعزيز الغيرة الوطنية، بشراكة بين كل أبناء المغرب، على قاعدة الدفاع عن مصالح الوطن، أولا، و إنجاح نموذج تنموي جديد تعطى فيه الأولوية لصيانة كرامة أبناء الشعب ضد كل تهميش أو حكرة أو إقصاء أو تعسف.

بذلك، سنبني جدارا قويا من العزة الوطنية، ينكسر على أعتابه كيد الألمان و من سواهم من أعضاء تحالف الشر الذي يريد النيل من وطن يستطيع أن يظل كبيرا على العابثين والمتآمرين، إذا توفرت الإرادة والعزيمة.

و في انتظار أن يتحقق الوعي لدى الجميع بالأهمية الإستراتيجية لإكمال بناء ذلك الجدار القوي، علينا أن نتواصل و نبقى على عهد الوفاء للوطن ودعم كل الخطوات الدبلوماسية التي تتخذها الدولة المغربية لحماية مصالحنا والدفاع عن سيادة بلدنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *