أعدها للنشر: المصطفى الحروشي

“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.

جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.

*لا تطلبوا مني أن أصمت

مساء 29 نونبر اختبأت السيارة التي تقلني بين أربعة جبال على الحدود مع موريتانيا، وكانت سيارات أخرى تحرس مداخل المنطقة. ومع طلوع الصبح أمتلأت المنطقة بسيارات “لاندكريزر”، وفي كل سيارة عدد من الشباب بكامل هيئتهم العسكرية، ببزات جديدة، وكأنّ الجبهة تريد استعراض قوتها.. ثم جاءت سيارة عسكرية أخرى للجبهة وأنزلوا منها طاولة وضعوا عليها لحافاً أبيض وأربعة كراس بين الجبال.. كنت أجلس، رفقة حارسين، غير بعيد، أتابع الفصل الأخير من مسرحية متواصلة منذ 70 يوما.

بعد فترة، وصلت وحدة من الجيش الموريتاني مرفوقة بسيارتين بيض تحملان علم الأمم المتحدة وشارات المفوضية السامية لغوث اللاجيين. بدؤوا يتحققون من موضع الطاولة باستخدام جهاز تحديد الموقع، قبل أن يجلسوا بعضهم قبالة بعض، كمن سيدخلون في مفاوضات رسمية. وكان منظرا أقرب إلى الهزل.. طاولة ومقاعد ووفود في الخلاء!

بعد حوالي ساعة، تم استدعائي إلى الطاولة، وسألني أحد مرافقي وفد المفوضية هل أقبل أن آتي معهم بإرادتي الحرة! ضحكت من سؤاله، وقلت له هل تسمي عنوان هذا المكان؟ وهلا تعد كم من سيارة عسكرية وجنود حولنا. وكان هناك فعلا حشد استثنائي للجبهة في ذلك اليوم. ثم قلت له إن كنت سجلت ما قلتُ لك، فنعم، أنا أقبل أن أذهب معكم، وليس مهما إن كان بإرادتي أو بدونها، فالصورة تغني عن السؤال..

وانتقلت إلى الجانب الآخر من الطاولة، حيث يجلس وفد المفوضية السامية لغوث اللاجيين، وأصبحت أخيرا حرّا، بعد أن ودعت حراسي وتسامحت معهم  على كل ما فات. وأنهت تلك اللحظة 71 يوما من الاختطاف والإخفاء القسري والتنقل بين الجبال والوديان وصور السيارات العسكرية و الجنود والغد المجهول.

أكدت الطريقة التي تمت بها عملية التسليم أنني كنت في حالة اختطاف ولم أكن في حالة اعتقال. ومهما تكن، فقد أزاحت عن الجبهة حملا ثقيلا. وانتهت معاناتي ومعاناة الحراس الذين كان عليهم سهر الليالي في مراقبتي بعيدا عن أسَرهم، مثلي.

جعلتني تلك التجربة أتألم كلما سمعت بحالة اختطاف، وأتذكر ما مررت به، فلم أتعرض لتعذيب جسدي، ولكنْ عندما تعرف أن مصيرك مجهول ولا تدري إلى أين تؤخذ ولا متى تنتهي محنتك، وكيف هو وضع أبنائك وأهلك، وليس لك لمن تشكو غير الله، يكون الأمر صعبا.. هناك درس تعلمته من محنتي، وهو أن الحق والصدق يجعلانك قويا ويعطيانك العزيمة لتقاوم الظلم.

ركبت إحدى سيارة المفوضية السامية لغوث اللاجيين، وواكبتنا سيارات من الجيش الموريتاني حتى وصلنا مدينة أفديرك، شمال موريتانيا. ومنها انعطفنا في اتجاه الجنوب إلى العاصمة الموريتانية نواكشوط، التي وصلناها بعد صلاة المغرب بقليل. ووجدنا في استقبالنا رئيس مكتب مفوضية غوث اللاجيين وممثلين للسلطات الموريتانية.

قيل لي إن مدة إقامتي في موريتانيا لن تتعدى شهورا قليلة، وإنه إلى حين مغادرتي عليّ تجنب الإعلام احتراما للموقف الحيادي لموريتانيا من النزاع.. لذلك لم أستطع وقتئذ أن أعبر عن كامل عرفاني وامتناني لكل الأحرار الذين استمروا يذكّرون العالم باختطافي منذ اللحظة الأولى، بأقلامهم وحناجرهم عبر المنابر الإعلامية، والذين وقفوا في كافة المدن المغربية وفي مختلف القارات في برد الشتاء، يهتفون بحريتي ويناشدون إطلاق سراحي. أشكرهم، ليس لأنه كان لهم فضل كبير في الضغط على البوليساريو من أجل الإفراج عني، أشكرهم لأنهم كانوا أنيس والدتي، التي تسكن بعيدا في خيمة صغيرة في صحراء زمور، و قد قالت لمن حولها حينما شاهدت على شاشات التلفاز الأبيض والأسود، العربيَ والأمازيغي والنصرانيَ والمسلم كلهم يطالبون بالإفراج عن ابنها: أنْ لا خوف بعد اليوم على ابني ولا هم يحزنون.

وهكذا ظهرت بعد 71 يوما من الاختطاف والاختفاء القسري،

كما أبدو في الصورة التي التقطت في اليوم الثاني لي في عالم الحرية

وللحكاية بقية…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *