محمد أوزين

‏‎العنوان أعلاه هو قول نسب إلى الشاعر العباسي أبي الطيب المتنبي، وهو قامة أدبية طبعت تاريخ الشعر العربي، بحيث اعتُبرت قصائده سجلا تاريخيا رائدا في مسار الأدب العربي. 

‏‎حظي شعر المتنبي باهتمام كبير، لكون شعره حير الناس واستعصى عليهم استيعاب مقاصده، وهو ما يفسر وصفه بلقب “مالئ الدنيا وشاغل الناس”. تولى شرح شعره جهابذة ونَحَارِيرُ اللغة وعلمائها، وعلى رأسهم العالم النحوي الكبير أبو الفتح عثمان ابْنِ جِنِّي، صاحب مؤلف “الخصائص”، أحد أشهر الكتب في فقه اللغة (Philologie).

‏‎كان المتنبي كلما سئل عن دقائق النحو وأسرار المتن في شعره يجيب: “سلوا صاحبنا أبا الفتح”، في إشارة إلى عالم اللغة الموصلي ابْنِ جِنِّي. فأصبحت العبارة ترمز إلى توسّل الجواب عند العارفين والمدققين في تفاصيل الأمور، أي من باب لا ينبئك مثل خبير عنها.

‏‎هذه العبارة، ولو أنها جاءت في سياق مختلف، فهي تجد تفسيرا لها في قضايا وأسئلة تشغلنا اليوم. الخارجية المغربية أعربت عن استيائها من سماح الجارة الشمالية لـ”زعيم” جبهة “البوليساريو” بدخول أراضيها بقناع يخفي وجهه الحقيقي. قد يظن البعض أن القناع يمليه سياق الوباء، أو ربما لإصابة الرجل بعدوى الفيروس التاجي، لكن الأمر يتعلق بقناع آخر لجأ من خلاله “الزعيم” لانتحال صفة، حتى تطأ رجلاه شبه الجزيرة الإيبيرية، وهو الأمر الذي تم بنجاح، قبل أن يسقط القناع. والواقع أنْ كم من وجوه أقنعة..

‏‎إلى حدود كتابة هذه السطور، لا يزال المغرب ينتظر ردا شافيا ومقنعا من الجارة الشمالية بشأن قرارها السماح لـ”الزعيم المقنع” بدخول أراضيها، وهو الذي تتعقبه تهم ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية والإرهاب. فهل يحق لنا هنا أن نسأل صاحبنا أبا الفتح؟ ثم من يكن أبو الفتح في هذه النازلة؟ الحكومة الإسبانية؟ أم القضاء الإسباني؟ أم طرف آخر ألِف التواطؤ مع الآخر؟ لكن، وقبل البحث عن أبي الفتح، من حقنا التساؤل: متى كان الزعماء، وهم قواد وأسياد القوم، ينسلخون عن ذواتهم لتقمص هوية غيرهم؟ ومتى كان علية القوم يتسللون خلسة لتجاوز الحدود؟ الزعماء الحقيقيون يتنقلون في مواكب مهيبة وتُخلى الطرق لمرور مواكبهم ويُستقبلون من قبَل مضيفيهم بما يليق بمقامهم ومكانتهم وهيبة بلدانهم.

‏‎الجارة الشمالية تربطها بالمملكة عدة اتفاقيات لمواجهة الهجرة غير النظامية. والواقع أن هذه الاتفاقيات تروم تحويل المغرب إلى “دركيّ” يحرس حدود أوروبا، وهو الموقف الذي عبّرت عنه الخارجية المغربية برفض المغرب لعب دور حارس الحدود. ناهيك عن الضغط الذي يعيشه المغرب جراء استقباله لجميع الجنسيات المرحّلة من إسبانيا، باعتبار أن كل دولة مسؤولة عن استقبال رعاياها فقط.

‏‎فهل تسللُ “الزعيم” بهوية مزورة لا يعدّ هجرة غير نظامية؟ أم أن قوانين إسبانيا أصبحت انتقائية، وهي الدولة المتبجحة بالديمقراطية!؟ وما دمنا بصدد الحديث عن الهجرة غير النظامية، فواقعة “زعيم البوليساريو” فتحت الباب لإغناء قاموس الهجرة  بمصطلح جديد: “الهجرة المقنعة”..

الخارجية الإسبانية بررت “القناع” بأسباب إنسانية بحت، وهو الأمر الطريف في القصة. فمتى كانت الاعتبارات الإنسانية تتستر وراء الأقنعة؟ ومتى كانت الظروف الإنسانية تقتضي التزوير والمناورة. 

‏‎الحديث عن الظروف الإنسانية يحيلنا، مرة أخرى، على الجرائم ضد الإنسانية. والحقيقة أنه يتعذر استيعاب مفهوم “الإنسانية” في منظور الجارة الإسبانية، بحيث يظهر سجل مواقفها في حالات مشابهة تناقضا صارخا وتباينا فاضحا في معالجتها، آخرها إدانة محكمة إسبانية لعقيد سابق في الجيش السلفادوري، البالغ من العمر 77 سنة، بارتكاب “جريمة قتل ارهابية” خلال الحرب الأهلية بالسلفادور. حيث لم تترد المحكمة الإسبانية في إصدار حكم ضد العقيد السلفادوري السابق مدة 133 سنة.

‏‎غير بعيد عن أمريكا الوسطى، تعالت أصوات حقوقية من قلب أمريكا الجنوبية، وبالتحديد من الشيلي، تطالب الحكومة الإسبانية، عن طريق السفير الإسبانيفي سانتياغو، بالتعامل مع “زعيم” جبهة “البوليساريو” الانفصالية كما تعاملت مع الديكتاتور التشيلي الراحل أوغوستو بينوشي.

‏‎وقد اعتبرت الأصوات الحقوقية ذاتها الخطوة التي أقدمت عليها الجارة الشمالية بالخطيرة، إذ رأت فيها تورط السلطات الإسبانية في التستّر على رجل يداه ملطختان بدماء الأبرياء العزّل، واعتبرت السيناريو نفسه يتكرر كما مع الحاكم الديكتاتوري بينوشي، حينما زار العاصمة البريطانية لندن في 2002 لإجراء فحوصات طبية، وهي الزيارة التي تم على إثرها اعتقاله بتفويض قضائي أصدره القاضي الإسباني بالتازار غارثون. فهل راعت إسبانيا حالة بينوشي الصحية آنئذ؟ وهل استحضرت الاعتبارات الإنسانية في حق كهل عليل يناهز عمره التسعين سنة؟

‏‎المجلة الفرنسية “جون أفريك” أوردت خبرا مفاده أن ترحيل “الزعيم” كان موضوع مفاوضات على أعلى مستوى هرم الدولة الجزائرية بعد إصابته بالفيروس الكوروني. وهو يرقد بمستشفى غير بعيد عن سرقسطة إحدى أهم قواعد الأندلس. وبناء على خبر المجلة الفرنسية، يمكننا مرة أخرى التساؤل: لمَ عناء الوساطة؟ ألا توجد مستشفيات لدى الجارة الشرقية لإيواء “سفير” كان معتمدا لديها منذ 2008؟ ثم ألا يتوفر “الزعيم” على مستشفى يرفرف فوقه “علمه” يقيه بطش الوباء؟ ولو أن الله هو الواقي.

‏‎مصداقية التاريخ ومصداقية المواقف ومصداقية الحقوق في إسبانيا على المحك. فهل تتدارك الجارة كبوتها وتبصم على ثبات مواقفها؟ أم سيسقط القناع عنها كما سقط عن زائرها؟

‏‎ردد حجّة الإسلام أبو حامد الغزالي حكمة قائلا: “من جعل الحق وقفاً على واحد من النُظّار بعينه، فهو إلى الكفر والتناقض أقرب”. وقال الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت: “في القانون الإنسان مذنب عندما ينتهك حقوق الآخرين، وفي الأخلاق مذنب إذا كان يفكر في القيام بذلك”. فهل سيكون للجارة الشمالية جواب مقنع وصريح في هذه النازلة حتى يصح عليها قول المتنبي “سلوا صاحبنا أبا الفتح”؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *