يعيش سكان بلوك ج -13 في ظلّ الحِجر في رمضان للمرة الثانية. مجددا، تُقرّر الحكومة فرض الحظر ليلا. في هذا الحي الخلفي، كما في كامل المدينة والبلد، ستتقيّد الحركة وتُخنق الأنفاس وتُعدّ الخطوات.. تلك أحكام الجّايْحة، وما على الحكومة إلا التنفيذ. كلّ العالم يخضع لفيروس تافه. تعود إلى الأذهان ذكريات التجربة -الكابوس. مرة أخرى، يجد سكان البلوك، أو سْويقة المحاميقْ، أنفسهم “فاصْ أفاصْ” مع الحقيقة، حقيقة أنفسهم وحقيقة الآخر، الأخ والحبيب والزوّج والصديق والجار والعابر، في ظرفية استثنائية، والوبأ مستجدّ ومستبدّ..

عبّاس لعورْ واحدٌ من قاطني ديورْ 13. إسكافيّ (خْرّاز) وبائعُ سجاير بالتقسيط (الدّيطايْ) ووسيط عقاري (سْمسار) ومساعد تاجر ومرشد سياحي غير مرخّص وربما واشٍ ومُقدّم خدمات متنوعة. يقدّم عبّاس خدماته للقاطنات والقاطنين بدون مقابل، غير الله يْرحم الوالدين المأثورة. للعابرين يعرض خدماته ووساطاته مقابل ما يجود به الواحد منهم، حسب طبيعة الخدمة، من نسبة أو بقشيش أو هدايا وأكسسوارات أو حتى وجبات أو ما بقي منها أحيانا.. “سْبع صّنايع”، تستفزّه زوجه هْنيّة الكْعية، متقلّبة المزاج.. يعيش معها عْبيبيس مواقف غريبة ضمن أخرى، في حومة غريبة، خلطت تداعيات الوبأ أوراقها أكثر ممّا هي مخلوطة..

تابعوا معنا، طوال رمضان، هذه “الخالوطة” من الوقائع الغريبة في هذه الحومة الغريبة في أزمنة تحكمها جايْحة غريبة..

(ملحوظة: كلّ تشابُه في الأسماء أو الأحداث أو التواريخ بين ما يرد في هذه السطور والواقع هو من قبيل.. صدفة غريبة)    

ع. الرزاق برتمزّار

الحلقة الـ21

من “النصائح” التي لم يكن عبّاس لعورْ يبخل بها علي، خصوصا بعدما عرف أنني بدأت أواعد أخت صديقي حسن بوقالْ، بل تقدّمت لخطبتها، أن أفكّر ألف مرة ومرة قبل مواصلة الخطو في هذا الطريق “الذي لا عودة منه”، كما كان يقول ضاحكا، وهو يتلفَت يمنة ويسرة حتى لا يسمعه أحد، خصوصا صديقي وصهري المستقبلي.

والحقيقة أن مثل هذه الأزمة المستجدّة تضع المتزوجين والمتزوجات أمام حقيقة قدرتهم  واستعدادهم لمواصلة مشوار الحياة يدا في يد رغم شدائد الحياة ونوائبها وصروفها.

والواقع أن سويقة المحاميق بدت، خلال الأيام القليلة على الخصوص، كأنّما أصاب أهلَها مسّ أو لوثة أفقداهم عقولهم. ورغم أنّي عاينتُ حالات غريبة لخصامات ومناقرات قوية وحتى لشجارات ومحاولات قتل، مما تورّطت فيه هْنيّة وهي تجرّ عبيبيس من خناقه وتمسح به أرض الساحة المبلّلة، فإنه يبدو أن “عشريّامْ الشّارْفات” كما نطلق على العشر الأواخر من رمضان تعِد بوقائع وأحداث تراجيدية، الله يْحفظ..

كان  النهار قد انتصف والشمس استقرت في كبد سماء مرسلة أشعّتها الحارقة في بدايات ماي، الذي ظل باردا نسبيا هذه السنة، خصوصا خلال الليل. لكنْ في النهار تكون الشّمس حارقة ولاسعة و.. مُهيّجة! كأن شيئا لامرئية يهيّج من يتعرّضون لأشعّتها، ومنهم علّال لصگع، زوج لبنى مُولاتْ المسمّن.

وعلال لصگع هذا رجل في بدايات الأربعينات من عمره، يعرف في كل شيء ولا يتقن أيّ شيء. فكان في الأيام العادية يخرج، أحيانا، وغالبا في اليوم الموالي لشجار أو مناقرة مع زوجته مُولاتْ المْسمّن، ويضع قضبانا حديدية طواها على شكل دائرة وقد أحاطها بـ”ملاّسة” وطوبَتَي “بْريك” علامةًعْلى أنه بنّاء. وطبعا، مع إمكان إنجازه كل الأعمال المرتبطة بالبناء، من صباغة رتركيب أنابيب الماء الشروب وأسلاك الكهرباء وغير ذلك. لكنْ حين يحلّ رمضان، يمتنع عن الخروج إلى ناصية الشارع طلبا لرزق قد يأتي وقد لا يإتي.

منذ بداية رمضان، إذن، صار علال، كما العادة في هذه الفترة من السنة، عالة على زوجته “لبنى” مُولات المسمّنْ، يعتمد عليها في أكله وشرابه و… كيفه وحشيشه! كلّ هذا كانت السيدة “لبنى” تتحمله وتصبر عليه “عْلى ودّ هاد ألبزاقْل اللي تّشاركتْ معاه”، لكنّ الاشكال أنها صارت بلا عمل أيضا. فالمسمّن وخبز الشّحمة والبطبوط وكل ما تبرع في إعداده وتقديمه لخضّاري السّويقة وتجارها ومرتاديها صار في كل مكان، تعجّ البيوت بروائحه. هكذا توقّفت مجبَرة عن العمل وهي تتمنى أن “يترجّل” علال ويتصرّف بمروءة في هذه الظروف المتفاقمة حد الانفجار. لكنّ علال كان قد استحلى الراحة والنوم في العسل ورائحة الكيف ونكهته، يأخذ ثمن “قْسيمة” منه كل يومين أو ثلاثة، دون حرج أو تحرّج، من زوجته لبنى.

فجأة، شقّ صوتُ علال المكان، يصرخ ويسبّ ويُقسم بالله إنه “سيطيّح روحا” اليوم. ويبدو أنه كان جادّا في تهديداته، إذ ما إن أنهى جملته حتى ظهرت المسكينة لبنى قرب باب منزلها طالبة النجدة، وقد غسلتها الدّماء، قبل أن تخرّ ساقطة وقد فقدت وعيها.. كنت من أوائل من رأوها، لكنْ لم أشأ أن أقترب من منزلهما حتى تسبقني بعض النساء إليها.

كانت السيدة لبنى مصابة بضربة من “شاقور” شقّ به علال رأسها، بلا رحمة. وكان كل وجهها وعنقها وصدرها مطلية بالسائل الأحمر، الذي كان لا يزال يفور من  مقدّمة جبهتها، من شرخ عميق ومقزّز. حاولت بعض النساء ممن هرعن إليها إسعافها وهنّ يضعن قطعة قماش مكان الجرح، وهنّ يحاولن جعلها تعود إلى وعيها.

في الداخل، عْلى بعد أمتار، كان جسد الزوج علال ممددا أرضا في حالة يرثى لها أيضا بعدما حاول قتل نفسه أيضا بضربات من الشقاوة ذاته، وجّهها لنفسه في أنحاء متفرّقة من جسده.

بعد حوالي ساعة، حضرت أخيرا سيارة إسعاف بعد اتصالات متكررة من بعض الجيران. ونقلناهما إلى السيارة في طريقهما، في حرجة إلى مستعجلات المركز الإستشفائي الجامعي محمد السادس، لعلّهم يسعفونهما هناك وتتجنَب البلاد جريمة أخرى من أجل ثمن “قْسيمة كيفْ” أصرّ على لصگع عْلى أن تمدّه له زوجته مُولاتْ المسمّن، التي لم تبع مسمّنة واحدة منذ 23 يوما. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *