عبد الدين حمروش
عدّد الباحثون أنماطا من المثقفين، بناء على الأدوار التي يُفترض أنهم يضطلعون بها داخل المجتمع. من مثقف السلطة إلى المثقف العضوي، أخذت تتناسل لائحة طويلة من المثقفين. وفي مقابل كل الأنماط المرصودة، أريد أن أقف عند نمط من المثقفين، أسميه “مثقف الوزارة”بحصر المعنى. إذاً، من يكون هذا المثقف المنسوب إلى الوزارة؟
في البداية، من المفيد تمييز الأخير عن مثقف الدواوين الوزارية. وإن كانا يشتركان في جملة مواصفات، إلا أن الأول ينفرد بأخرى دون الثاني. في ملاحظة أولى، نسجل أن مثقف الوزارة كثيرا ما يتمّ “اقتناصه”من مجالين محددين، يثيران بطبيعتهما “الضجيج”للجهات الوصية على القطاع. وهكذا، يظهر أن هذا المثقف غالبا ما يشغل “عمودا”في صحيفة، يُصوِّب منه ملاحظاته وآراءه وانتقاداته اللاذعة. أما خارج الصحافة، فهناك مجال “الجمعيات”ذات النزوع النقابي، التي توفر للمثقف الناشط مزية القرب من محيط الوزارة. ولاستيعاب هذا النمط من المثقفين (المشاغب صحفيا أو نقابيا)، يحدث أن يتمّ إدراجه ضمن أطقم الوزارة، من خلال تكليفه بمهمة “لا شيء”تقريبا.
يمكن الحديث عن “مثقف شبح”، بالنسبة لمن ينتمي إلى سلك الوظيفة العمومية. إن مثقف الوزارة، الذي نحن بصدده، يندر أن يكون قد أدى خدمةعمومية حقيقية. إنه موظف “رحّال”، بمجرد ما تنتهي مهمته “الشبحية”في هذا القطاع، حتى يشدّ الرحال إلى قطاع آخر. وبالمناسبة، فمثقف الوزارة “الشبح”يشغل أكثر من وظيفة خاصة، باستثناء وظيفته الرسمية، التي يأتي منها راتبه الشهري الأساس. كلما كانت هناك محاولة لإعادته إلى وضعه الإداري السابق، تسخن “الخطوط”من أجل استيعابه مجددا. قربه من المحيط الوزاري، يحول دون عودته إلى وضعه الطبيعي. إن الدولة، بالنسبة إليه، مجرد “بقرة حلوب”كما يقال.
إضافة إلى بعض الفنانين الأشباح، الذين يتوزعون على أكثر من قطاع وزاري، هناك الكُتّاب الأشباح أيضا. وعلى الرغم من المكاسب الهائلة التي يجنونها، نظير أعمالهم الفنية، لا يفرطون في وظائفهم الرسمية إطلاقا. ولذلك، تجدهم يزورّون عن الاستفادة من وضعية “الإيداع الإداري”، بحكم عدم تقبلهم فقدان أجورهم الشهرية. نظير الفنانين والكُتّاب المحظوظين، يمكن الحديث عن بعض الرياضيين أيضا. إنه الريع الذي يعمي العقول والقلوب. ولأن الأشباح الكبار يتمتعون بالحماية اللازمة، بالنظر إلى قربهم من مراكز القرار الوزاري، ففي الغالب ما يتم التركيز على تصفية “الصغار”، ممن فقدوا حماتهم لسبب من الأسباب. ومن هنا، كانت صعوبة محاربة الموظفين الأشباح، العابرين للوزارات والأحزاب والنقابات.
من كل أولئك الأشباح، تعنيني فئة واحدة بشكل خاص. وإن غذا الأشباح ظاهرة وطنية، إلا أن أخطرهم على المجتمع هم مدعو الكتابة والثقافة. وتأتي خطورتهم من كونهم ذوي ازدواجية في الوجوه. فبخلاف خطاباتهم، الضاجة بشعارات الحداثة والديمقراطية والشفافية، تلفيهم غارقين في “وحل”الريع والانتهازية. إنهم يبيعون الشعارات الإنشائية، المكرورة في مقالاتهم، مقابل خدمة “شبحيتهم”من جهة، وتسمين أرصدتهم الريعية من جهة أخرى. إنهم الأكثر خبثا ونفاقا من باقي الأشباح، الذين لا يروجون أي خطاب مُغالط على عموم الشعب. لا يستقيم الترويج لخطاب “المعارضة”النقدي، في وقت يشتغل فيه المثقف الشبح لفائدة وزارة ما. ولعل في قمة الخبث والنفاق: أن يلعب هذا المثقف دور الهادي للأمة، والحريص على أمن قيمها.
أما الخطورة الثانية، فإنها تأتي من محاولة لعب دور المثقفين الأصلاء. ففي زمن انقلبت فيه المعايير والقيم، أخذت مجموعة من مثقفي الريع (الانتهازيين) في الترويج لأنفسهم. ومادامت الوزارات قد غذت بين أيديهم، فقد سخروا مواردها لخدمة أجنداتهم الثقافية. ولذلك، نجدهم يتحركون في كل اتجاه: في اللقاءات الوطنية، والجهوية، والمحلية. وإذ بات يُحال كثير من الكتاب والمثقفين “الحقيقيين”إلى “المعاش الرمزي”، بحكم المرض والشيخوخة والإحباط والزهد حتى، فإن الوزارة شرعت في اصطناع مثقفين على المقاس..إنهم مثقفون بدون خلفية علمية مكينة، باستثناء ما ينتجونه من صراخ في مقالات، غذت تتشابه إلى حد القرف. هكذا، بتنا نتابع ميلاد نخبة مزيفة، بديلا لنخبة أخرى أصيلة، لولا أنها متقوقعة (بحكم انشغالها العلمي). ولأن الأولى انتهازية، فلا غرابة أن نجدها تكتسح المشهد. والمفارقة الكبرى، التي لا نعدم لها أمثلة، أن تبادر المزيفة إلى تسخير الأصيلة، خدمة لأهدافها الترويجية والانتهازية.
أما إن كان مثقفو الوزارة، ممن يُشهد لهم بتضخم ذواتهم، فإن السوء يزداد اتساعا وفظاعة. ولذلك، تلفي أولئك لا يرتبطون بأية علاقات إنسانية، اللهم إلا إن كانت في إطار سخرة ما. والواقع أن المغرب الثقافي الحديث شهد كثيرا من علاقات السخرة، حيث يوظف المثقف “الكبير” (الأستاذ في الجامعة أو القيادي في الحزب/ النقابة أو العضو في الديوان الوزاري أو الرئيس للجمعية) نظراءه لخدمته والترويج له في المحافل. إنها سيرورة من السخرة، يحصل أن يتحول فيها المُسخَّر إلى مُسخِّر بعد حذق الصنعة. وتقديرا لحجم الخسائر، يمكن الإحالة إلى من تمّت “بهدلتهم”من المثقفين، بل وتصفيتهم في غير قليل من الأحايين (يمكن العودة إلى حوارات صحفية “المساء”مع عبد الكريم برشيد). لقد نجم عن علاقات السخرة الثقافية ضحايا كثر، بسبب الإهمال أوالإحباط أو التشنيع أوالانقلاب. إن معظم مثقفي الوزارة، تقريبا، هم مثقفو سخرة. ولأنهم كذلك، فهم مثقفون ضحايا، لا يستوون إلا إذا وجدوا لهم ضحايا جددا. علاقة السخرة، في المشهد الثقافي المغربي، جديرة بالبحث