أعدها للنشر: المصطفى الحروشي

“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.

جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.

*لا تطلبوا مني أن أصمت

عدنا من المدرسة إلى مخيمنا، الذي سنكتشفه لأول مرة ونعرف أن عنواننا هو: ولاية العيون -دائرة الدورة -حي 2. فرغم أن المخيم يبدو للناظر من الخارج مجرد بحر من خيام القماش الأخضر المتشابهة، فإن التنظيم (مخزن الجبهة) يستطيع أن يعرف في أقل من خمس دقائق ماذا يجري في كل خيمة. فهذا الكم الهائل من الخيام مقسم إداريا إلى ثلاث ولايات: العيون، السمارة والداخلة. ومخيمنا “العيون” مقسم إلى ستة مربعات كبيرة تسمى دوائر: آمكالا، الكلتة، بوكراع، الحكونية، الدورة والدشيرة، وكل دائرة مقسمة إلى أربعة مربعات من الخيام. يسمى المربع الواحد “حي”، و هي مرقمة، 1، 2، 3، 4، وكل حي يتكون من عدة صفوف متراصّة من الخيام ما بين 15 إلى 25 صفا.

تنتظم نساء كل صف في ما يسمى خلية، لها مسؤولة تسمى العريفة. تنقل العريفة الأخبار ما بين خيام الصف والمسؤول السياسي المقيم في البناية التي تتوسط الأحياء الأربعة المسماة “الإدارة”. ويرفع المسؤول السياسي تقاريره إلى الوالي الذي تجتمع عنده تقارير الدوائر الست والمؤسسات في الولاية: المدرسة، المستشفى.. والوالي يرفع تقاريره إلى أمانة التنظيم السياسي في “العاصمة” الرابوني.

في الحالة العادية تمر العريفة بالإدارة كل صباح لتقدم تقريرها، وبعد أن تجمع كل الأخبار عن الدائرة، خيمة خيمة. تجهّز المراسلة إلى الولاية، فيأخذها شخص من الحراسة، وينتظر حتى يعود بالردود و الأوامر من الولاية.

عند مقر كل دائرة تحت إمرة السلطة المحلية مجموعة من كبار السن والعجزة غير القادرين على الحرب يسمون “ميليشيا”، يحرسون المرافق ويُحضرون النساء المخالفات، ويشرفون على حبسهنّ او تنفيذ العقوبات التي تصدر في حقهن.

ليس في مخيمنا نقود، والمأكل والمشرب والملبس في الغالب موحد، لأن مصدرها واحد هو “التنظيم”: الاسم الذي يطلق على السلطة الواحدة الأحَد التي تتحكم في كل شيء وتعرف كل شيء..

في مخيمها من النادر رؤية رجال غير رجال التنظيم، فكل الرجال عليهم أن يكونوا في جبهات القتال. والمقاتل في الجبهة يحظى في كل ثلاثة شهور برخصة 15 يوما لزيارة عائلته أو 20 يوما إذا أمضى فوق أربعة شهور. ولكي تنتقل من دائرة إلى دائرة عليك أن تُعلم العريفة، أما إذا كنت ستخرج من الولاية الى ولاية فأنت تحتاج رخصة تمر من الدائرة إلى الولاية إلى مركز الشرطة. ويتم النقل بين الولايات عن طريق شاحنة مكتوب عليها “نقل عمومي” ونسميها نحن “كاميون النقل”. ينطلق من عند مراكز الشرطة، كي لا يسافر من لا يحمل رخصة. أما السيارة في مخيمنا فهي ترفٌ لا يحظى به الا القادة. والرخصة لزيارة مدينة تيندوف، التي نراها رأي العين جائزة لمن أخلص للتنظيم ووفى. أما الرخصة خارج حدود المخيمات فهي من الأحلام..

في مخيمنا وجدنا “التنظيم” يحدد الوجبة، التي على جميع الخيامأن تطهوها في الغذاء والعشاء، ويتجول أفراد مليشيا مع العريفات على الخيام للتأكد من أنه ليس هناك من يكسر إجراءات التنظيم (المخزن). ومن تفعل تعاقب عند الإدارة، وتصادر وجبتها.

تتراوح العقوبات المحددة في ما يسمى وثيقة الإجراءات التأديبية التي تطبقها الإدارة على النساء المخالفات بين الحبس عند الإدارة وصناعة الياجور والتوبيخ في التجمّعات… وفي مخيمها ستسمع فقط ما يريد لك التنظيم أن تسمعه، فلا يوجد تلفزيون ولا صحافة، يوجد فقط المنشور السياسي. فالتنظيم هو مصدر الأخبار  و التحليل والتفسير والتأويل. وممثل التنظيم  المسمى “المسؤول السياسي” كلما بعث التنظيم منشورا، دقّ جرس الإدارة ليجتمع الناس في المهرجان ويتلو عليهم ما قال “التنظيم”، إذا كان الموضوع مهما. وإذا كان الموضوع ثانويا ينادى على العريفات ويعمّم عليهن، ثم تذهب العريفة وتجتمع بخليتها وتوصل إليهم ما قال التنظيم. ومن خرج من مخيمنا، لأي سبب كان، نستودعه الله والتنظيم حتى يعود، فليس عندنا هاتف ولا مراكز بريد.

كان مخيمنا أكثر تنظيما من أيّ معسكر في العالم، و كان تنظيمنا الأكثر سلطة تحكما في العالم. وكان العيش في مخيمنا يحتاج منك أن تكون منضبطا جدا جدا، وإلا!؟…

وجدنا أهل مخيمنا يؤمنون بالتنظيم وكأنه الآية القرانية: “فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا” (65). نزلنا فيه.. وصرنا على آثارهم مقتدين…

وللحكاية بقية…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *