يعيش سكان بلوك ج -13 في ظلّ الحِجر في رمضان للمرة الثانية. مجددا، تُقرّر الحكومة فرض الحظر ليلا. في هذا الحي الخلفي، كما في كامل المدينة والبلد، ستتقيّد الحركة وتُخنق الأنفاس وتُعدّ الخطوات.. تلك أحكام الجّايْحة، وما على الحكومة إلا التنفيذ. كلّ العالم يخضع لفيروس تافه. تعود إلى الأذهان ذكريات التجربة -الكابوس. مرة أخرى، يجد سكان البلوك، أو سْويقة المحاميقْ، أنفسهم “فاصْ أفاصْ” مع الحقيقة، حقيقة أنفسهم وحقيقة الآخر، الأخ والحبيب والزوّج والصديق والجار والعابر، في ظرفية استثنائية، والوبأ مستجدّ ومستبدّ..

عبّاس لعورْ واحدٌ من قاطني ديورْ 13. إسكافيّ (خْرّاز) وبائعُ سجاير بالتقسيط (الدّيطايْ) ووسيط عقاري (سْمسار) ومساعد تاجر ومرشد سياحي غير مرخّص وربما واشٍ ومُقدّم خدمات متنوعة. يقدّم عبّاس خدماته للقاطنات والقاطنين بدون مقابل، غير الله يْرحم الوالدين المأثورة. للعابرين يعرض خدماته ووساطاته مقابل ما يجود به الواحد منهم، حسب طبيعة الخدمة، من نسبة أو بقشيش أو هدايا وأكسسوارات أو حتى وجبات أو ما بقي منها أحيانا.. “سْبع صّنايع”، تستفزّه زوجه هْنيّة الكْعية، متقلّبة المزاج.. يعيش معها عْبيبيس مواقف غريبة ضمن أخرى، في حومة غريبة، خلطت تداعيات الوبأ أوراقها أكثر ممّا هي مخلوطة..

تابعوا معنا، طوال رمضان، هذه “الخالوطة” من الوقائع الغريبة في هذه الحومة الغريبة في أزمنة تحكمها جايْحة غريبة..

(ملحوظة: كلّ تشابُه في الأسماء أو الأحداث أو التواريخ بين ما يرد في هذه السطور والواقع هو من قبيل.. صدفة غريبة)    

ع. الرزاق برتمزّار

الحلقة الـ20

ألزمتُ نفسي، منذ اليوم الأول، باحترام القرار الحكومي، لا خروج بعد الثامنة ليلا ولا قبل السادسة صباحا. أنا هكذا أغاراسْ أغاراسْ كما يقولون..

ثم إنه ليس لي عمارات ولا أراض في أحواز المدينة  ينبغي أن أتفقدها حتى أخرق القحظر الليلي.. كل ما يلزمني قْسيمة كيف أتنشوى بها وأردّ المزاج بعد الإفطار وبعد العشاءوقبيل السحور. ما عدا همّ إيجاد الكيف بالنهار لا أحمل أي همّ آخر، بما في ذلك الصلاة، خصوصا صلاة التراويح.

أنا لا أصلي في الأيام العادية، وحين يقترب رمضان أواجه مشكلة حقيقية مع بعض والدَي وأخي الوحيد، الأصغر والمتزمّت. لا أعرف من أين يأتيني بفتاواه الغريبة. يقول لي مثلا إن تدخين الكيفْ حرام, وحين إسأله هل الكيف ذُكِر في القرآن؟ وهل هناك أية حرّمته، يكتفي بأجوبة فضفاضة، قبل أن يعود إلى لازمته الشهيرة: الحلال بيَن والحرام بيّن!

-يا سيدي الحلال بيّن والحرام بيّن.. ياكْ ما گالو ليك راني تنشفر ف لسواق أو تنبيع لحشيش؟ راه هير تنكميهْ، وهير الكيفْ ماشي حتى لحشيشْ، ونزيدك: هادوك اللي كتظلّ تابعهوم وهوما بارْكين عليك الحلال بيّن والحرام بيَن راه ماشي كلْهوم تيعرفو الحْلال من الحرام.. ونْبدا ليك بولد السيكليسْ، فينْ عمّرو صاوب ليك شي بياسة مقادّة! وولد الهيش، مول التّوب، ياك ديما واكلْ الناس اللي كيجيبو ليه السلعة فرزقهوم!؟ وشحال من وحدة وواحد حتى من الكليانْ تيجمعو عليه عباد الله ويدعيوْ فيه، باللي تيغشّ فالعْبار.. وْزايدون گاع من هادشي: فين قراو هاد الجَوج بالضبط هادشي ديال الحّلال والحرام؟ ياك المخيّب فيهوم ما فيجايتشّ. الكاتريامْ؟ وانتَ، يا حسرة، اللي قرّبتِ للباك تابْع ليّ هضرتهوم وتصدّقها بحال إلى راها وحي منزّل.. وا خدْم دماغك شوية، أصاحبي، را انتَ اللي خاصّك تفتي عليهوم ماشي هوما!  

لم أكن أفوَت فرصة دون أن أسمعه ما بم يكن يحبّ أم يسمع: 

-سْبحان الله بعدا هادو گاع اللي تنعرفهوم تيكمّلو الكيف وَلا الحشيش ما عمّرني سمعت شي واحد فيهوم دّا لشي واحد رزقو.. أما هاد اللّحية صحابك، ما كاين غيرْ غفل طارت عينيك.. راه الدَّين ما تيهمشّ فيه الجانب النظري، التطبيق هو الأساس، كيفاش كتتعامل مْع الناس، كيفاش كتصوّر رزقك، كيفاش كتديرْ خدمتك.. هادشي اللي مهمّ عندي أنا، ماشي نمشي نصلّي فالجَامع وملّ تنخرج منَو نمشي ندير الزّبايلْ..

كثيرا ما كان يشجَعه تدخّل من الوالد أو الوالدة، دون ذلك لم يكن يبدي رغبة قوية في مواصلة النقاش،  خصوصا حين نصل فيه إلى هذا الباب المسدود، كما يحدث عندما يطرح معي مسألة الصلاة أو العبادة في رمضان.

-أخويا أنا ما كنصلّي في الأيام العادية، إذن ما غاديشّ نصلّي في رمضان!

يكون جوابا موجّها للجميع في الحقيقة، للوالدين وله، فهُما أيضا يظنان أنّ عليُ، عْلى الأقل، أن أصلي في رمضان، أي كلّما أتيحت لي فرصة لكسب حسنات..

-الحسنات عْندي أنا هو ما نغشّن ما نسرق، ما نتعدّى، أما باش نبقى العامْ كامل وانا عايش عّلى خاطري حتى يقرّب رمضان عاد باش ننوضْ ونبدا نصلّي، سمحو لي: أنا ماشي عْبّاد رمضان!

أحيانا، حين يصرّ أخي الأصغر عللى مناقشتي في موضوع مثل هذا أعرف أننا لن نصل فيه إلى أية نتيجة، كنت أكتفي بملء سْبسي وتدخينه وأنا أنفث الدخان في وجهه مباشرة..  يقوم حينئذ بسرعة هاربا، وهو يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم..

كما لم يكن يتحمّل رائحة الكيف، لم أكن أتحمّل رائحة ذلك المسك أو الكافور أو لست أدري ما اسمه، بل لا أطيقها بتاتاً. تُطيّر المْجاج من دماغي، حتى لو ضربت عْشرين شقفاً متتاليا..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *