أعدها للنشر: المصطفى الحروشي

“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.

جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.

*لا تطلبوا مني أن أصمت

انطلقت بنا شاحنة الأنيمونك التي ستقلنا إلى مدرستنا البعيدة، وعيني مثبتة على والدتي الواقفة، تشيّعنا بنظراتها المتعبة وهي تضم إليها أختي وأخي الصغيرين وكأنهما كل ما تبقى لها في هذا الكون. وكلما ابتعدنا تلاشت الصور التي ألِفنا طيلة شهرين ونصف.. فلم نعد نرى والدتي وإخوتي واختفى مخيمنا وصرنا لا نرى  غير صحراء تبتلعنا كلما تقدمنا في المسير. ووجدتُني أتشبث بأخي الجالس قربي كمن يتشبث بآخر نفَس. كنا بالأمس ثلاثة إخوة وثلاث أخوات وأبا وأما، ثم صرنا ثلاثة إخوة وأختا فقط، وها أنا الآن وأخي، الذي يكبرني بعامين، صبيان وحيدان وسط صحراء لامتناهية تحيط بنا من كل جانب. 

بعد ساعتين أو يزيد لاحت لنا مبان بيض، كلما اقتربنا منها اتضحت تفاصيلها وبدت كقرية صغيرة يحوطها سور، لها بوابة متقدمة، على شاكلة المعسكرات وعلى بابها بعض الحراس.

لم نتأخر كثيرا عند البوابة، قبل أن ننزل في ساحة المدرسة، التي بدت كأنها خمّ أفراخ. فأصوات الأطفال عالية وحركاتهم تتقاطع في كل الاتجاهات، يرتدون لباسا موحدا بلون الرماد.

استقبلنا شخص يدعونه “المربّي” وأخذنا إلى المخزن حيث تسلمنا اللباس الرمادي الذي يلبسه كل أطفال المدرسة. وعرّفَنا على مرافق المدرسة، حيث كان الجزء الشرقي مساكن للتلاميذ مقسما إلى جزءين بين الإناث والذكور، يليه من جهة الشمال المستوصف وسكن المعلمين، وفي الجهة الغربية يوجد المطعم المدرسي والقطاع الإداري المسمى “المديرية”. وفي وسط المدرسة توجد الحجرات الدراسية.

كنا كمن انتقل من عالم إلى عالم، وكان علينا أن نتكيف مع عالمنا الجديد، عالم ليس فيه الأب والأم، في قرية صغيرة سكانها أطفال، هي أقرب إلى المعسكر منها إلى المدرسة. فالحياة فيها مضبوطة بالجرس والصافرة، وكل شي فيها موحّد، من قلم الرصاص إلى اللباس، ويومك مقسّم بين سلطة المعلم في القسم وسلطة المربّي في عنابر النوم و الساحة.

تزامن وصولنا المدرسة، في ثاني يناير 1980، مع امتحانات الفصل الأول من الموسم، وكان أعلى مستوى في مدرستنا قسم واحد من الصف الخامس، وكنا قد درسنا شهرا من الخامس في مدينة السمارة قبل أن يحل بنا ما حل. أجرينا الامتحان معهم رغم أننا لم ندرس يوما واحدا، ونجحت ولو في ترتيب متأخر وعندما تكون في أعلى مستوى في أية مدرسة تُحسب من الكبار، بغضّ النظر عن سنك وعندما تكون متفوقا بين الكبار تكتسب الاحترام بين الزملاء والتقدير من المعلم، ما كان سببا من الله في أني لم أجد صعوبة في التأقلم مع عالمي الجديد.

في تلك الأيام وجدناهم يدرّبون الأطفال، في “كراديس”، على المشية وحركات الاستعراض العسكرية، وكنا حديثي عهد بها، رغم أننا في أعلى مستوى في المدرسة. وأذكر أنه في حصة التدريب العسكري الأولى تلقيت ضربة من المدرب بسوط مطاطي تركت في جسدي خطا أحمرَ امتد من أعلى صدري حتى منتصف البطن، لأني لا أحسن الخطوة العسكرية.. في تلك اللحظة مثلت أمامي صورة والدي وتمنيت لو كان قربي ليدافع عني. وكان أبي رجل سلطة في المغرب برتبة خليفة قائد وشيخ للقبيل وكانت هيبته واحترامه وتوقيره في المدينة تُشعرنا بالأمان. بكيت كثيرا لأنه بعيد عني، خاصة أنني ضُربت دون أن يكون لي ذنب. فذنبي أني حديث عهد بعالمهم ولم يتسنّ لي أن أعرف الخطوة العسكرية.

لكنّ أجمل ما في الصغر أن أحداث الصباح يُنسيها المساء وسرعة التأقلم والتعلم. فقد صرت أتقن المشية العسكرية، حتى أني شاركت ضمن كتيبتي في الاستعراضات العسكرية المخلّدة للذكرى الرابعة لإعلان ((“الجمهورية الصحراوية”)).

وما إن انتهى الموسم الدراسي حتى صارت لنا مدرسة وأصدقاء وعالم جديد ألفناه، أنسانا بعض ما فقدنا. وعدنا إلى مخيمنا في العطلة، محملين بقصص شغب وجنون مدرسة خمّ الفراخ الرمادية التي يعيش فيها الأطفال بلا أب ولا أم وهم يضحكون.

وللحكاية بقية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *