يعيش سكان بلوك ج -13 في ظلّ الحِجر في رمضان للمرة الثانية. مجددا، تُقرّر الحكومة فرض الحظر ليلا. في هذا الحي الخلفي، كما في كامل المدينة والبلد، ستتقيّد الحركة وتُخنق الأنفاس وتُعدّ الخطوات.. تلك أحكام الجّايْحة، وما على الحكومة إلا التنفيذ. كلّ العالم يخضع لفيروس تافه. تعود إلى الأذهان ذكريات التجربة -الكابوس. مرة أخرى، يجد سكان البلوك، أو سْويقة المحاميقْ، أنفسهم “فاصْ أفاصْ” مع الحقيقة، حقيقة أنفسهم وحقيقة الآخر، الأخ والحبيب والزوّج والصديق والجار والعابر، في ظرفية استثنائية، والوبأ مستجدّ ومستبدّ..

عبّاس لعورْ واحدٌ من قاطني ديورْ 13. إسكافيّ (خْرّاز) وبائعُ سجاير بالتقسيط (الدّيطايْ) ووسيط عقاري (سْمسار) ومساعد تاجر ومرشد سياحي غير مرخّص وربما واشٍ ومُقدّم خدمات متنوعة. يقدّم عبّاس خدماته للقاطنات والقاطنين بدون مقابل، غير الله يْرحم الوالدين المأثورة. للعابرين يعرض خدماته ووساطاته مقابل ما يجود به الواحد منهم، حسب طبيعة الخدمة، من نسبة أو بقشيش أو هدايا وأكسسوارات أو حتى وجبات أو ما بقي منها أحيانا.. “سْبع صّنايع”، تستفزّه زوجه هْنيّة الكْعية، متقلّبة المزاج.. يعيش معها عْبيبيس مواقف غريبة ضمن أخرى، في حومة غريبة، خلطت تداعيات الوبأ أوراقها أكثر ممّا هي مخلوطة..

تابعوا معنا، طوال رمضان، هذه “الخالوطة” من الوقائع الغريبة في هذه الحومة الغريبة في أزمنة تحكمها جايْحة غريبة..

(ملحوظة: كلّ تشابُه في الأسماء أو الأحداث أو التواريخ بين ما يرد في هذه السطور والواقع هو من قبيل.. صدفة غريبة)    

ع. الرزاق برتمزّار

الحلقة الـ19

من يعرف مّي هْنيّة جيدا يعرف كم هي درويشة وطيبة و”نيّة” رغم حروبها الضروس شبه اليومية مع زوجها عباس لعورْ ، والتي لا يترددان خلال إحدى معاركها، التي لا يعرف غيرهما أسبابها، في استعمال كل أسلحتهما الثقيلة فيها.

حين تمضي إحدى تلك الليالي، كما في ليلة أمس،  والتي صار الجيران الأقرب إليهما يدارون ما يصدر عنها خلالها برفع صوت القرآن أو الحديث أو حتى الموسيقى بالنسبة إلى البعض رغم أن الشهر رمضان، كنت أعرف أنها ستكون واحدة من أوائل زبوناني في اليوم الموالي.

لا أدري هل هي مجرّد مصادفة أم أنها فعلا “تحلب” عبيبيس المسكين، الذي تراجعت مداخيل كثيرا، مثل معظمنا، بعد كل لقاء حميمي بينهما.  لم أشأ أن أسأله، بل لم أجد مدخلا لذلك في الحقيقة، فاحتفظت بذلك لنفسي. وفعلا، إن هي إلا لحظات بعد إخراجي سلعتي وعرضَها على عربتي حتى لاح لي طيف جسدها الضّئيل قادما في اتجاهي بابتسامتها الطفولية ذاتها وبالورقة الزّرقاء في محفظة نقودها السوداء الصغيرة.

اختارت هذه المرة قطعتين “عطيني سْليپ وسوتيامْ مزيانينْ ومن نْفس اللون، عافاك”، قالت وأصابعها الضئيلة تتلاعب بقارورات الروائح وأصابع أحمر الشّفاه. وحين هممت بأن أعيد إليها الباقي قالت إنها نريد أيضا عطرا وأحمر شفاه. “عجيب أمر النساء”، قلت في نفسي، كلّما زدن سنا زاد تشبّثهن بالحياة وبمتعها. فلم يسبق لهنيّة، منذ سبع سنوات التي كانت خلالها إحدى زبوناتي أن اقتنت أحمر شفاه ولا عطرا.

ومن إن ابتعدت حتى وقفت بقربي، عند سعيد مولْ الزّيتون، خدّوج الصّوطة، زوجة الشّريفْ الحوّات وعيشة النقّاشة، زوجة وْلد حَفيظة. طلبت الأخيرة من الزيات أن يزن لها رابْعة من الأسودومثلها من الأخضر، وهي تقول لمرافقتها:

-إيوا شتّي ليك لالّاك هْنيّة تاني، ها هي ضبّرات ليك تاني عْلى سوتيانات وسليپات جدادْ، بيت هيْ نعرف هاد عبيبيسْ ديالها منين تيقوَر ليها كاع هادشي.. أنا بعدا هير نكول ليه شي ربعة دْريالْ زايْدة عْلى الصّاير يخرّج فيَ عينيه.. 

-وْعلاه انتِ كتعرفي تگولي ليه “زيد أعبيبيسْ إينو زيد؟” واخَا يسمعكوم السيكتور كاملْ!؟ ها ها ها ها

-والله إلى سعادتها ما عْندها كسرْ،يكون رمضان ولا شعبانْ، المهم يْفرح القنّ ولو سْهّرات معاها السيكتور كاملو..

بعد حين، انتبهتا إلى أنهما ليستا بعيدتين عني بما يكفي، فأمسكت خدّوج البكّاية يد عيشة النقّاشة وسحبتها وهي تنظر صوبي وتوشوش لها بكلمات لم أتبيّنها كما تبيّنتُأب كامل ما سبقه.. النساء هن النساء، سواء في رمضان أو في غير رمضان، لا تحلو لهن الحياة دون نميمة، ولو عْلى الريق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *