دائما ما أقول أن جيل السبعينات جيل محظوظ جدا، لأنه عايش إرث جيل الستينات والخمسينات ويعايش اليوم جيل الألفية الثانية.   

نحن جيل كبر مع مسلسلات تاريخية انتصرت في مضامينها لسير القادة الكبار، والشعراء الأفذاذ، والفوارس النبلاء، “محمد يا رسول الله”، “المتنبي”، “عازف الليل” وغيرها. وحتى الرسوم المتحركة كانت تقدم قصصا واقعية الشر فيها واضحا والخير واضحا، سواء بالعربية أو الفرنسية…”السندباد”، رائعة مارك توين “طوم سويور”، “بيل وسيباستيان”، “جزيرة الكنز”، “دوق فليد”… فنشأ جيل يتحكم على الأقل في المبادئ الأساسية للغتين.

اليوم لدينا جيل مدبلج، يكتب الدرجة بالحروف اللاتينية ولا يجيد أيه لغة، يتابع مسلسلات مدبلجة إلى الدارجة، وكبر على مشاهدة رسوم متحركة عنيفة أبطالها كائنات غرائبية الشكل لديها “فراقش” وقرون يقدمونها له ككائنات ترمز للخير وتعين أبطال قصص الرسوم المتحركة. 

وفي الأخير يتساءلون لماذا أصبح لديهم مراهقون في الخامسة عشر من عمرهم يحملون السيوف ويقطعون الطرق، فماذا كنتم تنتظرون أن يخرج لكم من وراء كل تلك المسلسلات والإنتاجات الرديئة ولعبة الفري فاير التي حشوتم بها أدمغة هؤلاء المراهقين عندما كانوا أطفالا.

لذلك فنحن أمام جيل معطوب، جيل لم يلحس طابع البريد بلسانه لكي يبلله بلعابه قبل أن يلصقه فوق ظرف الرسالة البريدية، فأبناء اليوم يتراسلون بوسائل التراسل الحديثة.

لدينا اليوم جيل لم يحمل “وصلة” خبز الجارة الذي تتركه أمام الباب مرتاحة إلى أن ولد لحلال سيمر ويحمله فوق رأسه إلى فران الحومة.

جيل لم تضع الجارة فوق جرح غائر في رأسه التحميرة لأن ابنها شجه بحجر طائش، ولم ير كيف كانت الشجارات بين الجيران تنتهي بتبادل طباصل الحلوى وكأن شيئا لم يكن.  

نحن أمام جيل كامل لم يجرب في يوم من الأيام أن يدخل «ستيلو بيك» في إحدى دوائر «الكاسيطة» لكي يعيد الشريط الموسيقي إلى الخلف لأن زر «السجالة» معطل، جيل يحشو أذنيه ب”الليزيات” ويهيم على وجهه في الشوارع مثل الأرواح التائهة في أغنية “تريلر” لمايكل جاكسون.

نحن أمام جيل كامل لم يجرب يوما البحث عن الموجة في مذياع وهو يلصقه فوق أذنه، ولم يجرب طعم الكاربون الأسود في فمه عندما يعض إحدى بطاريات الراديو الميتة بحثا عن بعض بصيص الطاقة فيها، أو وضعها في كاصرونة ووضعها فوق النار طمعا في بعث الحياة فيها من جديد .

هي أشياء ضاعت مع التقدم التكنولوجي الحديث، عشنا حلاوتها ومرارتها نحن جيل السبعينات والثمانينات وتركت في قلوبنا آثارا لن تمحى.  

الآن لم يعد أبناء اليوم يحتاجون سعاة البريد كما كنا نحن نحتاجهم، فهم منشغلون بكتابة الرسائل الهاتفية القصيرة المليئة بالأخطاء في السناب شات، عوض كتابة واحدة من تلك الرسائل التي كنا نقضي أياما في مراجعتها وانتقاء كلماتها والرسومات التي سترافقها. 

في تلك المراهقة البعيدة كان الجميع يبحث عن ربط علاقات صداقة وتعارف بالمراسلة. وليس مثل اليوم حيث حرمت شبكات التواصل الاجتماعي برسائلها السخيفة، أجيال اليوم من متعة الجلوس إلى الطاولة أمام ورقة بيضاء أو بطاقة سياحية عن مدينتنا لكتابة رسالة بعبارات مختارة بعناية. 

هل لاحظتم كيف أن البطاقات السياحية للمدن المغربية انقرضت بدورها من المكتبات ؟

في السابق كانت المكتبات تعرض بطاقات للمسبح البلدي الذي «تشلبطنا» طويلا في مياه مسبحه الصغير الخاص بالأطفال والمخلوطة بالكلور والبول، وبطاقات حول الحديقة العمومية حيث كانت مواعدنا الغرامية الأولى، ومقر العمالة الذي اعتصمنا أمامه لسنة من أجل الشغل، والشارع الرئيسي الوحيد بالمدينة الذي كنا نذرعه جيئة وذهابا طيلة ليالي الصيف الحارة، لنعرض أذرعنا المحمرة نهارا تحت شمس غشت فوق رمال شاطئ.

أما اليوم فيستحيل أن تعثر على بطاقات أخرى في المكتبات غير بطاقات تعبئة الهواتف الجوالة.

في تلك الثمانينيات كان الحصول على أصدقاء عبر المراسلة صعبا ومكلفا، وليس مثل اليوم حيث يستطيع أي مراهق بنقرة واحدة على هاتفه أن يعثر على آلاف الأصدقاء الافتراضيين الذين يسكنون في الشبكة طيلة اليوم والليلة. 

لذلك كان يجب البحث عن ركن التعارف في صفحات المجلات والجرائد، وقضاء وقت طويل في التربص بالبرامج الإذاعية التي تذيع عبر الهواء عناوين وأسماء الراغبين في التعارف في ما بينهم.

في السابق كانت الجارات يطلبن منا نحن الأطفال المتعلمين كتابة رسائل لأزواجهن وأقربائهن البعيدين، واليوم تجلس الأمهات والآباء أمام «السكايب» للتحدث مع أبنائهم في كندا وأوربا بالصورة والصوة. كانت عناويننا عبارة عن دكاكين الحومة واليوم لكل منا عناوينه الخاصة على الإنستغرام والفيسبوك، كنا نلتقي أصدقاءنا بعد سنوات من المراسلة، والآن يلتقي أبناء اليوم بأصدقائهم عبر «السكايب» كل ليلة. 

كنا نوفر مصروف الجيب لكي نشتري طوابع البريد والأظرفة، والآن صار أبناء اليوم يوفرون مصروف الجيب لشراء بطاقات التعبئة لهواتفهم النقالة وشراء ساعة من الوقت للجلوس أمام شاشة خرساء وجامدة لكي يتحدثوا ويلعبوا مع غرباء لن يلتقوا بهم أبدا. 

*رشيد نيني/ كاتب صحفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *