أعدها للنشر: المصطفى الحروشي
“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.
جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.
*لا تطلبوا مني أن أصمت
كانت البوليساريو أعلنت، منذ أيام في بيان توصلت به وكالات الأنباء العالمية يوم 6 أكتوبر، أنها أطلقت سراحي.. ولأنه لم يكن لي اتصال بالعالم الخارجي لم أعرف أنه قد “أطلق سراحي”! فمازلت في المعتقل، لم يخبروني بشيء، والمعاملة لم تتغير.
في إحدى الليالي، في منتصف أكتوبر تقريبا، زارني ضابط أمن في خيمة الزنزانة، قال إنه يريد أن يشرب معي الشاي، فرحّبت بالضيف وقمت بالواجب رغم قصر ذات اليد.. بادر الضابط بالحديث، وكنا على معرفة مسبقة بعضنا ببعض. قال إنه جاء بصفة شخصية وإنه ليس مبعوثا من أية جهة وإنه يريد أن يفتح معي نقاشا حول تصوري لحلّ هذه الأزمة وإنه… وإنه..
قلت له، و هو العارف، إنه حيث أوجد في هذا الوادي لا يمكن لطائر أن يمرّ دون إذن فبالأحرى إنسان يمشي، ولكنْ لا يهم..
قال صاحبنا الضابط إنني أعرف علاقته بأصحاب القرار، فهو خال الرئيس وصهر رئيس الحكومة وضابط سام في المخابرات.. ويمكنه أن يدخل وساطة في تسوية الأزمة الحاصلة بيني وبين الحكومة الصحراوية ويسأل عن وجهة نظري في الموضوع.
قلت له إن وجهة نظري قلتها منذ اليوم الثالث لاعتقالكم لي، وقد حمّلتها لمحمد لمين بشري، وهو إنسان معروف بالصدق والأمانة، وما زالت لم تتغير.. أنتم اتهمتموني باطلا، ولا أنكر عليكم حقكم في التحقيق معي في أية شبهة ترون، وقد فعلتم. وأنا الآن تحت سلطة قضاء الجبهة، وما عليكم سوى أن تعطوا لقاضي التحقيق أمرأ بأن يصدر قرار الإفراج عني وينتهي المشكل.. ولن أحاسبكم على ما فات. بل أزيدكإنه من الأفضل لكم أمام الرأي العام الصحراوي، الذي أشعتم فيه أني خائن وعميل وجاسوس وما إلى ذلك، أن تأمروا القاضي بأن يجعل قراره “إفراج مؤقت” على ذمة التحقيق، بدل قرار “إطلاق سراح”، حتى أبدو وكأني ما زلت تحت الرقابة القضائية، في انتظار المحاكمة. وبمرور الوقت، سينسى الناس وتكونون قد تجنبتم الحرج.. والخيار الثاني أن نستمرّ في المسار القضائي حتى نصل المحاكمة. وتعلم كم سيكون محرجا محاكمتي بسبب رأي سياسي.
حاول صاحبنا الضابط أن يدخل معي في مساومات، لكنه وجد الباب موصدا. وبعد انتهاء جلسة الشاي، شكرته على زيارته، فلأول مرة منذ ثلاثة أسابيع أجد من يحدّثني و يشرب معي الشاي. وانصرف على أنه سيلتقي السلطات ويأتيني بالرد..
ولم يتأخر الرد كثيرا، فقد عاد الضابط، بعد ليلتين، ليخبرني بأن الأزمة فُرجت وأنهم قرروا الإفراج عني دون حاجة إلى قضاء ولا غيره، فنحن أبناء الخيمة نسوّي خلافاتنا تحت سقف خيمتنا.
كان خبرا سارا عندما سمعت منه نبأ الإفراج عني، وكدت أعانقه من الفرح، فأخيرا ستطمئنّ والدتي وأبنائي بعد كل ما عانوا. لولا أنه قال “هناك جزيئة صغيرة أريد إخبارك بها.. فالجبهة توصلت بمعلومات تفيد بأن المغرب ينوي قتلك ليورّطنا، ولهذا قررت القيادة أن تسلمك لمنظمة دولية.. وقد بدؤوا اتصالات مع المفوضية السامية لغوث اللاجئين وسيتصل بك مكتبهم غدا صباحا من هاتفي هذا”، وكان يحمل هاتفا غاليا.
اختلط بداخلي الفرح والحزن الغضب. فالإفراج خبر مفرح، لكن النفي سيء، سيء جدا.. قلت للسيد الضابط: أليست معلومة أني سأغتال من طرف المغرب “سبة شرتات لوالدتو”؟! و”شرتات” في أساطيرها الشعبية مخلوق يرمز إلى الشّره، ومن إحدى قصصه أنه، ذات يوم، لم يجد ما يأكله ولم يكن قربه غير والدته، فالتفت إليها وقال لها: أمي، عينك اليوم تشبه عين النعجة.. ففهمت الأم أنها ستكون وجبته التالية، وقالت له: كلني ما دمت قررت، فالحجة ليست مهمة…
كنت معتقلا منذ ثلاثة أسابيع بتهمة الخيانة والعمالة للمغرب، واليوم صاروا يخافون عليّ من المغرب! قلت للضابط إن كان خبر إطلاق سراحي صحيحا، فمنزل والدتي قريب في امهيريز، أستطيع الوصول إليه مشيا، إن كان يتعبكم توصيلي. فهذه أرض آبائي وأجدادي ومسقط رأسي وأعرف الطريق.
وبالنسبة إلى خوفكم عليّ من أن يقتلني المغرب، فإذا قتلني المغرب وأنا بينكم، فماذا ستكونون إن كنتم عاجزين عن حماية صحراويّ واحد في “الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية” (الطويلة الاسم)؟..
سأجنّبكم هذا الحرج وأبصم بأصابعي العشرة وأُشهد ذوي عدل منكم على أنكم براء من دمي، إن قتلني المغرب..
قال الضابط إنه مجرد حامل رسالة وإنه سيتصل، في صباح اليوم الموالي، بمكتب مفوضية غوث اللاجئين في جنيف لترتيب إجراءات تسفيري..
وللحكاية بقية…