يعيش سكان بلوك ج -13 في ظلّ الحِجر في رمضان للمرة الثانية. مجددا، تُقرّر الحكومة فرض الحظر ليلا. في هذا الحي الخلفي، كما في كامل المدينة والبلد، ستتقيّد الحركة وتُخنق الأنفاس وتُعدّ الخطوات.. تلك أحكام الجّايْحة، وما على الحكومة إلا التنفيذ. كلّ العالم يخضع لفيروس تافه. تعود إلى الأذهان ذكريات التجربة -الكابوس. مرة أخرى، يجد سكان البلوك، أو سْويقة المحاميقْ، أنفسهم “فاصْ أفاصْ” مع الحقيقة، حقيقة أنفسهم وحقيقة الآخر، الأخ والحبيب والزوّج والصديق والجار والعابر، في ظرفية استثنائية، والوبأ مستجدّ ومستبدّ..

عبّاس لعورْ واحدٌ من قاطني ديورْ 13. إسكافيّ (خْرّاز) وبائعُ سجاير بالتقسيط (الدّيطايْ) ووسيط عقاري (سْمسار) ومساعد تاجر ومرشد سياحي غير مرخّص وربما واشٍ ومُقدّم خدمات متنوعة. يقدّم عبّاس خدماته للقاطنات والقاطنين بدون مقابل، غير الله يْرحم الوالدين المأثورة. للعابرين يعرض خدماته ووساطاته مقابل ما يجود به الواحد منهم، حسب طبيعة الخدمة، من نسبة أو بقشيش أو هدايا وأكسسوارات أو حتى وجبات أو ما بقي منها أحيانا.. “سْبع صّنايع”، تستفزّه زوجه هْنيّة الكْعية، متقلّبة المزاج.. يعيش معها عْبيبيس مواقف غريبة ضمن أخرى، في حومة غريبة، خلطت تداعيات الوبأ أوراقها أكثر ممّا هي مخلوطة..

تابعوا معنا، طوال رمضان، هذه “الخالوطة” من الوقائع الغريبة في هذه الحومة الغريبة في أزمنة تحكمها جايْحة غريبة..

(ملحوظة: كلّ تشابُه في الأسماء أو الأحداث أو التواريخ بين ما يرد في هذه السطور والواقع هو من قبيل.. صدفة غريبة)    

ع. الرزاق برتمزّار

الحلقة الـ16

شيئا فشيئا ويوما بعد يوم، اتّضح للجميع أن الحَكومة ليست جادة هذه المرة. بدا كأنها تورّطت في إعلان الحظر الليلي ومواصلة التقيد بالتدابير المعمول بها.  وإن هي إلا أيام حتى ساد الانطباع أنّ سكان بلوك ج -13، خصوصا الصغار واليافعين، ندموا على كل يوم التزموا فيه باحترام القرار الحكومي.

كان عبّاس واحدا ممن لم يتحمّل إغلاق المقهى ليل نهار. صار المكان بالنسبة إليه منزله الثاني. بمرور الوقت، كفّ صالْح الورّاد عن طرده بعيدا عن محله والتضييق عليه في صْنايْعه التي يزاول في تلك المساحة الضيّقة في الجانب الأيسر للمقهى.  اقتنع، في نهاية المطاف، بأن وجوده في ذلك المتر المربع جنب مقهاه لا يؤثر في سير أشغاله في شيء.  بل إنه أدرك لاحقا أنه أهمّ ربما أهمّ حتى من مساعدَيه، اللذين يتناوبان على خدمة الزبائن.

وبحنكته، أدرك أن وجود عبيبيس أساسيّ لسير أشغال المقهى، فهو يعسّ ويراقب، ولو صامتا، كل ما يجري في المكان، وخصوصا في محيطه الخارجي. كما أنه يوفّر سجائر بالتقسيط وأوراق “البروغرامْ” وخدمات أخرى تفيده هو شخصيا في كسب زبائنَ جُدد وفي الاحتفاظ بآخرين. وهكذا، بدأ يألف وجوده أمام محله، بل صار لاحقا يكلفه بمهام مرتبطة بالفتح والإغلاق ومساعدة النادلين في صفّ الطاولات والكراسي صباحا أو في جمعها ووضعها في زاوية المقهى ليلا. وهكذا صار عْبيبيس شخصية محورية في المكان، لا يكاد دوره يقتصر على مسح الأحذية وبيع “البروغرام” والسجائر بالتقسيط.

كنت من رواد المقهى اليوميين تقريبا، خصوصا حين كان لا يزال مسموحا بتدخين الكيف فيها. وكان ذلك أيام الزمن الجميل. نتناقش، عبيبيس وأنا في ربطة كيف، نشتريها من علاّل  الضّبعْ بالعلّالي ونقصّصها في منزل عباس في الغالب، قبل أن نقسمها قسمين، لكل “كمّوسته” و”سبسيه” فنبتعد مكانينا جنب الكونتوار المنخفض، قبالة مدخل المقهى، ونشرع في قصف بعضنا بعض في لعبة “گولف” لا تنتهي إلا وقد احمرّت عيوننا ودامت رؤوسنا نشوة لا تضاهيها نشوة.

كان هذا في الزمن الجميل، قبل أن يصير تدخين الكيف بْلية الجميع، وقبل أن يصبح المخزن في المقهى أكثر من الزبائن. ثم لم يلبث الوضع أن تغيَر رأساً بعدما جاء القايْد يوما وأخبر الورّاد بأن عليه أن يتوقف عن بيع أوراق التّيرسي ويمنع تدخين الكيف في محله إن هو لم يرد من السّلطات ان تغلقه بصفة نهائية. ورغم كل محاولاته ومناوراته وعرْضه جميع أنواع “القْهاوي” عليه وعلى مرافقيه، فقد كان ممثل السلطة متشبثا بقراره.

ومنذ ذلك اليوم، صار الزبائن يتراجعون والنشاط يقلّ والرزق يضيق، إلى أن نزل القرار الحكومي فأصاب صالْح الورًً،آد كما غيره من ملاك المقاهي والمطاعم في مقتل. لكنّ الورّاد لم يتاخر كثيرا في إيجاد مخرج من هذه الوضعية المستجدّة، بعدما قرّر أن يغيّ نشاطه ولو خلال رمضان، الذي لم يكن مثلَه رمضان من قبل ولا من بعد..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *