يعيش سكان بلوك ج -13 في ظلّ الحِجر في رمضان للمرة الثانية. مجددا، تُقرّر الحكومة فرض الحظر ليلا. في هذا الحي الخلفي، كما في كامل المدينة والبلد، ستتقيّد الحركة وتُخنق الأنفاس وتُعدّ الخطوات.. تلك أحكام الجّايْحة، وما على الحكومة إلا التنفيذ. كلّ العالم يخضع لفيروس تافه. تعود إلى الأذهان ذكريات التجربة -الكابوس. مرة أخرى، يجد سكان البلوك، أو سْويقة المحاميقْ، أنفسهم “فاصْ أفاصْ” مع الحقيقة، حقيقة أنفسهم وحقيقة الآخر، الأخ والحبيب والزوّج والصديق والجار والعابر، في ظرفية استثنائية، والوبأ مستجدّ ومستبدّ..

عبّاس لعورْ واحدٌ من قاطني ديورْ 13. إسكافيّ (خْرّاز) وبائعُ سجاير بالتقسيط (الدّيطايْ) ووسيط عقاري (سْمسار) ومساعد تاجر ومرشد سياحي غير مرخّص وربما واشٍ ومُقدّم خدمات متنوعة. يقدّم عبّاس خدماته للقاطنات والقاطنين بدون مقابل، غير الله يْرحم الوالدين المأثورة. للعابرين يعرض خدماته ووساطاته مقابل ما يجود به الواحد منهم، حسب طبيعة الخدمة، من نسبة أو بقشيش أو هدايا وأكسسوارات أو حتى وجبات أو ما بقي منها أحيانا.. “سْبع صّنايع”، تستفزّه زوجه هْنيّة الكْعية، متقلّبة المزاج.. يعيش معها عْبيبيس مواقف غريبة ضمن أخرى، في حومة غريبة، خلطت تداعيات الوبأ أوراقها أكثر ممّا هي مخلوطة..

تابعوا معنا، طوال رمضان، هذه “الخالوطة” من الوقائع الغريبة في هذه الحومة الغريبة في أزمنة تحكمها جايْحة غريبة..

(ملحوظة: كلّ تشابُه في الأسماء أو الأحداث أو التواريخ بين ما يرد في هذه السطور والواقع هو من قبيل.. صدفة غريبة)    

ع. الرزاق برتمزّار

الحلقة الـ15

منذ ساعات الصباح الأولى يُكسر هدوء سويقة المحاميقْ.. أبواب منازل ومحلات تجارية تُفتح ومحرّكات سيارات ودرّاجات بخارية وثلاثية العجلات تخترق جدار الصّمت وتُخرج الحومة من سباتها الليلي.

في العادة، أكون بين آخر من يتخذون أماكنهم لعرض سلعهم أمام أنظار مشترين ومشتريات محتمَلين. ولأني كنت أسهر حتى أوقات متأخّرة في تدخين الكيف، وبعض الحشيش أحيانا، حين أوفّر مبلغا إضافيا من أرباحي، فلم أكن أستيقظ إلا في حدود العاشرة أو العاشرة والنصف، لكنْ في ليلة النصف صحوتُ مبكرا على وقع جلبة عالية وضوضاء وشتائمَ ممّا  يفطر مجرّد سماعه..

كان صوتَ الشريف الحوات، أستطيع تمييزه من بين عشرات الأصوات. ظننت، في البداية، أنه فصل آخر من فصول تراجيدياه الكوميدية التي لا تنتهي إلا لتبدأ مع رفيقة دربه المصون خدّوج الصّوطة، لكنْ سمعت صوتا رجوليا خشنا يردّ عليه الشتيمة شتائمَ واللعنةَ لعنات.

غادرت باب البيت بعجالة وقد أيقنتُ، من خلال تواصُل الشجار واحتداده، أنّ  الأمر جادّ وأن الذي يجري قد ينتهي بما لا تُحمد عقباه. وكذلك كان، فحين اقتربت منهما كان الشجار  قد انقلب تشابكا بالأيدي حسمَه الحوَات لصالحه وهو “يقجّ” الحبيب الصّنديد، زوج الباتول مُولاتْ النّظافة، ويرفعه عاليا قبل أن يخبط به أرض السّويقة الصلبة.

وقع كل شيء بسرعة لم يبق معها لمحاولاتنا التدخّل أية قيمة. أعرف الشريف الحوات جيدا وعاشرته منذ مدة، لا يمكن أن يعتدي على أحد أو يكون السباق إلى خصومة أو شنآن، لكنْ حين يجد نفسه متورَطا في شجار، خصوصا في رمضان، يحسمه بطريقة عنيفة ومباغتة، لا تخرج عن أحد أمرين: إما بتوجيه ضربة من رأسه لخصمه أو بإسقاطه أرضا، بحركة سريعة تفاجئ غريمه وتسهَل على الحّوات هزمه نهائيا.

تمكّنا أخيرا من إبعاد زوج الباتول، مُولاتْ النّظافة وتهدئة الأخيرة. كانت أكثر من زوجها إرغاء وإزبادا. أما زوجها المسكين فأدرك متأخّرا أنه تورّط في هذا النزال غير المتكافئ، فاكتفى ببعض الكلمات الساخطة الآي لا تكاد تُسمع وهو يداري خيبته الإضافية هذه أمام زوجته المتغوّلة. ستتّخذ هزيمته أمام عريهم لتمعن في إذلاله وسبّه بعطالته وإكبابه على التّيرسي والكيفْ. 

حين فهمت ما وقع لاحقا، وقد هدأ الشَريف وحكى لنا روايته لسبب الخصومة، وجدت له كلّ العذر:

-واش أعبادْ اللهْ ما كتلقاشّ وقتاش تبدا ترشّ بهداك “ساني كْنوا” ديالها غيرْ مْلي تنحطّ أنا سلعتي؟! زعما أنا راه عنْدي محلّ وانتَ تتبيعْ غير فكرّوسة! والحماقْ هادا أحويا با هادي.. فين عمّر الحوتْ و”ساني كنوا” يتّلاقاو!؟

والحقيقة أنّي بذلتُ جهدا أكبر في منع ضحكتي من أن تنفجر في وجهه أكثر مما بذلت في إقناعه بتبدالْ الساعة.. مما يميّز الشّريفْ الحوّات أنه لا يستطيع نطق حرْف الراء، الذي يصير في عرفه نونا.. وحين كان يقول “ساني كنوا” فهمتُ في الحال أنه يقصد “ساني كْروا”…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *