يعيش سكان بلوك ج -13 في ظلّ الحِجر في رمضان للمرة الثانية. مجددا، تُقرّر الحكومة فرض الحظر ليلا. في هذا الحي الخلفي، كما في كامل المدينة والبلد، ستتقيّد الحركة وتُخنق الأنفاس وتُعدّ الخطوات.. تلك أحكام الجّايْحة، وما على الحكومة إلا التنفيذ. كلّ العالم يخضع لفيروس تافه. تعود إلى الأذهان ذكريات التجربة -الكابوس. مرة أخرى، يجد سكان البلوك، أو سْويقة المحاميقْ، أنفسهم “فاصْ أفاصْ” مع الحقيقة، حقيقة أنفسهم وحقيقة الآخر، الأخ والحبيب والزوّج والصديق والجار والعابر، في ظرفية استثنائية، والوبأ مستجدّ ومستبدّ..

عبّاس لعورْ واحدٌ من قاطني ديورْ 13. إسكافيّ (خْرّاز) وبائعُ سجاير بالتقسيط (الدّيطايْ) ووسيط عقاري (سْمسار) ومساعد تاجر ومرشد سياحي غير مرخّص وربما واشٍ ومُقدّم خدمات متنوعة. يقدّم عبّاس خدماته للقاطنات والقاطنين بدون مقابل، غير الله يْرحم الوالدين المأثورة. للعابرين يعرض خدماته ووساطاته مقابل ما يجود به الواحد منهم، حسب طبيعة الخدمة، من نسبة أو بقشيش أو هدايا وأكسسوارات أو حتى وجبات أو ما بقي منها أحيانا.. “سْبع صّنايع”، تستفزّه زوجه هْنيّة الكْعية، متقلّبة المزاج.. يعيش معها عْبيبيس مواقف غريبة ضمن أخرى، في حومة غريبة، خلطت تداعيات الوبأ أوراقها أكثر ممّا هي مخلوطة..

تابعوا معنا، طوال رمضان، هذه “الخالوطة” من الوقائع الغريبة في هذه الحومة الغريبة في أزمنة تحكمها جايْحة غريبة..

(ملحوظة: كلّ تشابُه في الأسماء أو الأحداث أو التواريخ بين ما يرد في هذه السطور والواقع هو من قبيل.. صدفة غريبة)    

ع. الرزاق برتمزّار

الحلقة الـ14

كان الكلّ مهيّئين تقريبا لهذا الحظر الليلي، بحكم سنهم أولا وبحكم تعوّدهم نسبيا على الأمر في مرحلته الأولى، لكنّ الإشكال الحقيقي كان الأطفال والمراهقين. كيف يمكن أن تقنع طفلا صغيرا اعتاد أن يسرح في الفضاءات المحيطة بحوزته الشعبية منذ طلوع الشّمس حتى غروبها، باستثناء سويعات قليلة يكون خلالها في مدرسته أو مراهق؟!

وكان في منزل حْميدة الخياط ولبنى مُولاتْ المسمّن وحدهما فريق كامل، فقد كان لهما سبعة أبناء، بينهم بنتان فقط، البقية ذكور يبلغ أكبرهم سبعة عشرة سنة وأصغرهم عشر سنوات. وحين يلتقي أبناء حميدة الخياط  والمدني والباتول مُولاتْ النّظافة تصير الساحة فضاء لكلّ أنواع الهرج والمرج، خصوصا بعد أن يلتحق بهم أبناء عيشة النقّاشة وزوجها العاطل، وْلد  حَفيظة.

كان أولاد سويقة المْحاميق يشكَلون “عصابات” مصغّرة تقضي معظم نهارها بين أزقّة الحومة وجنانات الزّيتون القريبة، لا يكادون يتذكّرون ان لهم منازل إلا من أجل الأكل أو التغوط أو النوم. وفي ظل انشغال الآباء بتوفير لقمة عيش تعسُر كلّ يوم أكثر فأكثر ولامبالاة أمهات يطحنهنّ الجهل والخواء واليأس، اعتاد صغار سويقة المْحاميق ويافعوها على العيش في الخارج.. فكيف يلتمون الآن منازلهم؟ وحتى إن افترضنا أنهم اقتنعوا بذلك، كيف سيتحمَل تسعة أشخاص أو سبعة، أو حتى خمسة أو أربعةبعضهم بعضا وهم داخل فضاء مغلق طوال الليل؟

كان ضجيج الصغار، في البداية، يصل إلى المسامع دليلا على أنهم لم يستطيعوا أن يظلوا بين الجدران، كما الأكبر سنا. وبمرور الوقت، صار بعض اليافعين أيضا يتمرَدون على آبائهم وأمهاتهم ويغادرون سجن  الجدران الأربعة. ثم تدريجيا، اتّضح أن السّلطات تركت أمر الالتزام بقرار الحظر للمواطنيـن.. فليست هناك إنزالها أمنية ولا دوريات منتظمة ولا حملات، فعجّت دروب سويقة المحاميق بمزيد من الشباب واليافعين وبمزيد من الضجيج والصراخ والشتائم.

ليلة  أمس، بدا لي، من سْطيحتي، حيث أكتفي بمجّ الدخان وعدّ الدراهم التي كسبت في اليوم السابق وما عليّ أن أنفق منها في شراء السلعة، سمعت ضجيجا وصياحا ما فتئ يتصاعد ويقوى بمرور الدقائق والساعات. كانوا يخوضون مباراة في الكرة وهم في كامل عدّهم وتعدادهم.

لم أكد أستوعب الأمر في البداية. صحيح أنني لاحظت أن تعامل السّلطات لم يكن، منذ اليوم الأول، بتلك الصرامة كما في المرة الأولى التي فُرض فيها الحظر لأول مرة قبل عام تقريبا، لكنْ أن يذهب الأمر إلى حد خوض مباراة في كرة القدم، وبين يافعين على أعتاب المراهقة، وليس بين صغار، ذاك ما لم أكن أتصور حدوثه يوما.

وعلى وقع ضجيجهم وصخبهم، وجدتُني أقول في نفسي: لم يكن خاطئا من سمّى هذه الحومة سويقة المْحاميق!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *