يعيش سكان بلوك ج -13 في ظلّ الحِجر في رمضان للمرة الثانية. مجددا، تُقرّر الحكومة فرض الحظر ليلا. في هذا الحي الخلفي، كما في كامل المدينة والبلد، ستتقيّد الحركة وتُخنق الأنفاس وتُعدّ الخطوات.. تلك أحكام الجّايْحة، وما على الحكومة إلا التنفيذ. كلّ العالم يخضع لفيروس تافه. تعود إلى الأذهان ذكريات التجربة -الكابوس. مرة أخرى، يجد سكان البلوك، أو سْويقة المحاميقْ، أنفسهم “فاصْ أفاصْ” مع الحقيقة، حقيقة أنفسهم وحقيقة الآخر، الأخ والحبيب والزوّج والصديق والجار والعابر، في ظرفية استثنائية، والوبأ مستجدّ ومستبدّ..

عبّاس لعورْ واحدٌ من قاطني ديورْ 13. إسكافيّ (خْرّاز) وبائعُ سجاير بالتقسيط (الدّيطايْ) ووسيط عقاري (سْمسار) ومساعد تاجر ومرشد سياحي غير مرخّص وربما واشٍ ومُقدّم خدمات متنوعة. يقدّم عبّاس خدماته للقاطنات والقاطنين بدون مقابل، غير الله يْرحم الوالدين المأثورة. للعابرين يعرض خدماته ووساطاته مقابل ما يجود به الواحد منهم، حسب طبيعة الخدمة، من نسبة أو بقشيش أو هدايا وأكسسوارات أو حتى وجبات أو ما بقي منها أحيانا.. “سْبع صّنايع”، تستفزّه زوجه هْنيّة الكْعية، متقلّبة المزاج.. يعيش معها عْبيبيس مواقف غريبة ضمن أخرى، في حومة غريبة، خلطت تداعيات الوبأ أوراقها أكثر ممّا هي مخلوطة..

تابعوا معنا، طوال رمضان، هذه “الخالوطة” من الوقائع الغريبة في هذه الحومة الغريبة في أزمنة تحكمها جايْحة غريبة..

(ملحوظة: كلّ تشابُه في الأسماء أو الأحداث أو التواريخ بين ما يرد في هذه السطور والواقع هو من قبيل.. صدفة غريبة)    

ع. الرزاق برتمزّار

الحلقة السابعة

بعد أذان المغرب، وبعد أن تشبع بطون قاطني الأحياء الخلفية حْريرةً وشبّاكية ومْلاوي وبطبوط، وبعض ما تيسّر من عصائر وشهيات لمن استطاع اليها سبيلا،  تقول البطون للرؤوس: حيّ على الغناء، حيّ على الزّناقي والقهاوي والأماكن المظلمة، ولكل أغنية أو بْلية أو حبيبة. لكنْ ما العمل الآن وقد منعت الحكومة التنقل ليلا؟! يا لها من طامّة بالنسبة إلى سكان حومة يقضون في العادة من الساعات في الخارج اكثر مما يقضون في الداخل.

يا لهول ما قضت به الحكومة في حق هؤلاء، لو تدري؟ يا لمأساة عْبيبيس في مواجهة هْنيّة طوال هذه الساعات المديدة لليل وما أتعس الشريف الحوات وقد أحكمت حوله طوقَها المدمّر للأعصاب ولأدنى رغبة في الحياة زوجُه البكّاية خدّوج الصّوطة! أحسّ الشريف بالغبن والقهر وهمّ بمغادرة البيت وليكنْ ما يكون ما دام ذلك سيضمن له الخلاص من بكائياتها اللامنتهية، لكنه تذكّر وضعه القانونيَ فتراجع وهو يحكّ شعر رأسه، على عادته، تدبّرا.

أدين، قبل مدة، بثلاثة شهور “سورْسي” في قضية اعتداء على وْلد المْقدّم. لم يكن الفاعلَ، لكن اسمه ذكر مرارا في التحقيقات، فطالته في النهاية هذه العقوبة المجحفة، كما ظلّ يردّد منذ نطق القاضي بها. في لحظة، فكّر في أنه لم يعد يفصله عن انتهاء العقوبة إلا أسبوعان أو أقلّ، فعدل عن فكرة المغامرة بالخروج. تذكّر أيضا أن بوسط البوليس ليس بعيدا عن المكان، وقد يصادفونه خلال إحدى دورياته فاستكان، متأفّفا، إلى قدَره.

بعد بضع لقيمات وكاس ماء، سلّ السّبسي والمطوي من قميص معلّق وسط المْراح الصغير وصعد أدراجا ضيّقة في معبر ضيّق يقود إلى سطح البناية. حاولت جعله يُكمل فطوره أولا أن يشرع في نفث تلك السموم، كما تسميها، في بدنه، لكنْ خانتها العبارة كالعادة:

-وا كمّل غير فطورك بْعدا ولاّ خفتِ داك السمّ يتقاضى، الله يسمّم ليك المْعيشة كي سمّمتيها ليّ فهاد النهار، بجاه السميع العليم!

-وا فطري غير انتِ، اللي مْفتوحة ليك الشّهية، أما أنا راه هير كلمة منّك كتقطع ليّ النفس شهراينْ.. السميع العليم كن كن يسمعك اشّ كتگولي كلّ نهار كن قطع ليداك اللسان من الجّدر!

همّت بالرد عليه، وقد اتخذت وضعية المهاجم، بأن وضعت يديها على جنبيها وجحظت عيناها الحادّتان مثل عيني حدأة عدوانية، لكنه كان قد تخطاها بخفّة، مردفا، ليمتصّ انطلاقتها في المهد:

-دابا نرجع نكمّل لفطورْ، ولكنْ بْشرط: حاوْلي ما تْبكي عليّ ما نبكي عليك، را الوقت سالْخة بويا مْزيان هاد ليامات.. ما حيلْتي للغلا ديال السلعة، ما حيلتي للكليانْ اللي ما بقاو حتى يشوفو جيهةْ الحوت، ما حيلتي للقهوة سادّة، ما حيلتي لبكاك بالليل وبنهار، تگول تّحرق ليك شي وزينْ.. واش ما تعرفيشّ شي حاجة من غير البكا والشكا؟  

-أشنو، أشنو؟ تّحرقو لي لوزينات؟ زعما كتتجمّل عْليّ بهاد ربعة دْريالْ باش معيّشني؟ ورغم ذلك نوجّد ليك كلشي منها، ها الشّلايض، ها العصير، ها المسمّن ها البغوي، ها الكيكة، ها البيض، ها الحوت، ها الحْريرة الحامْضة، وفاللخّر تخلّي لي كلشي وتنوضْ باش تطلع فين تبدا تبخّ علي ريحة الكيف، بعد ما جيّفتيني وجيّفتِ لي داري بريحة الحوت الخانز يا الخانزْ وْلد ال الخْـ…

ولم تدْرِ خدّوجْ الصّوطة ما وقع بعد ذلك، فقط أحسّت بشيء ثقيل يهوي على صدغها الأيمن وبما يشبه. عصافير، صفراء وخضراء وزرقاء، تُشقشق فوق رأسها، متراقصةً ما ما يشبه نجوماً علت سماء الغرفة.. ولحظات، لا تدري مقدارها، سمعتْ صوت جارتها هْنيّة تقول:

-خدّوجْ، خدّام، مالكي، اشّ وقعْ ليك؟ فيفي، فريقَي، كتسمعيني؟ كتشوفيني؟

وشيئا فشيئا، بدأت الغشاوة تنقشع عن ناظريها ويتّضح لها طيف جارتها وتعود إلى وعيها تدريجيا:

-أش وْقع؟ أش كنديرْ عندك فدارك؟ فين أنا؟

-لا، أنا اللي فدارك وانا اللي تنسوّل اشّ وقع.. سْمعنا الغوطة ديالك وتّخلعنا.. جينا تنجرًيو، أنا وعبيبيس، راه طلع مع راجلك للسّطيحة، وْالله الفطورْ ما كمّلناه.. أش وقع؟ ياك شي باس ما كاين؟ 

-(…)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *