محمد أوزين
قد يتساءل العديد عن معنى العنوان الغريب أعلاه. وإذا وقع هذا التساؤل فهذا هو بيت القصيد.. هذه الكلمة المستفزة تحمل حلميناستمرا في الزمان ولو اختلف المكان. ارتطم الحلم الأول بعناد صخور الواقع الجليدية، واستطرد الحلم الثاني، الذي عرف إصراره كيف يروض المستحيل حتى تمكن، بفضل عزيمته، من تطويع العوائق ليصبح حقيقة وإنجازا تاريخيا باهرا.
الكلمة هي مزج بين حلمين: التيتانيك (Titanic) والكون تيكي (Kon-Tiki). الأول يرمز إلى الشموخ والعظمة، لكونه أحد أضخم الأجسام المتحركة التي أبدعها الإنسان في ذلك الزمان، والثاني مجرد مركبة بدائية أو ما يعرف بـ”الطَّوْفُ”، بحيث تشد العيدان في ما بينها لتبحر فوق الماء. فكان السباق نحو نفس الحلم، أي الوصول إلى الوجهة المقصودة عند الإبحار الأول. وكأنه صراع تتحدى فيه العظمة خيار البساطة.
كلا الحلمين استحضرتهما السينما العالمية من خلال عمل فني رائد للمخرج الكندي الشهير جيمس كامرون (James Cameron) سنة 1997 في فلمه ذائع الصيت “تيتانيك”، تلاه عمل سينيمائي آخر للمخرجان النرويجيان إبسون ساندبيرغ (Espen Sandberg) ويواكيم رانينغ (Joachim Ronning) سنة 2012 بعنوان “كون تيكي”، رغم أنه، وللمفارقة، لم يحظ بنفس التتويج الذي حظي به “تيتانيك” رغم انتصار الحلم في البساطة على الحلم في العظمة.
شيدت سفينة تيتانيك في مدينة بلفاست الإرلندية سنة 1912 على يد خبراء الشركة العالمية “وأيت ستار لاين” (White Star Line) المتخصصة في صناعة السفن بعد فوزها بالصفقة ضمن مجموعة من الشركات العملاقة المتنافسة.
واستغرق صنع السفينة عامين من الزمن بكلفة فاقت سبعة ملايين ونصف دولار. وخلال حفل تدشينها، ثم تقديم السفينة على أنها إبداع غير مسبوق، بحيث يضم هذا الجسم العملاق المتحرك ست عشرة مقصورة بأبواب قابلة للإغلاق ومانعة لدخول الماء، ما يجعل من تيتانيك، حسب زعم مصمميها، سفينة غير قابلة للغرق.
وحسب أرشيف الشركة المصممة، فإن أول إبحار للسفينة كان يوم 10 أبريل 1912، في رحلة من لندن إلى نيويورك. لتنتهي خدمة الباخرة العملاقة يوم 14 ابريل 1912، بعد أن اصطدمت بجبل جليدي تسبب في غرقها بالكامل، ساعات قليلة بعد منتصف الليل.
اعتُبر غرق تيتانيك من أشهر المآسي التي شهدها التاريخ الحديث، بحيث ظلت المأساة حاضرة عبر الزمن، ملهمة العديد من الأعمال الفنية والموسيقية والروائية والسينيمائية.
وعلى الرغم من النهاية التراجيدية لتيتانيك، فإن ذلك لم ينل من عزيمة عالم الأنثروبولوجيا وعالم الآثار، المستكشف والمغامر النرويجي ثور هييرداهي (Thor Heyerdahl) لتحقيق حلم ظل يراوده زمنا طويلا، حتى فاق إصراره المجازفة وأوشك على الحمق.
قضى العالم والمغامر ثور حياته مهووسا بفكرة واحدة: الحضارات القديمة انتشرت عبر رحلات بحرية عبر المحيطات والبحار.. وهي الفكرة التي ستتعمق في ذهن العالم أكثر خلال رحلة له رفقة زوجته في جزر ماركيز في بولينيزيا، حيث صادف ثور رجلا عجوزا أخبره بأن “كون-تيكي” (فيراكوتشا بالإسبانية) وهو إله الشمس في أساطير “الإنكا” وما قبل “الإنكا” في منطقة الأنديز في أمريكا الجنوبية، هو الذي أحضر أجداده إلى تلك الجزر. كان فيراكوتشا من أهم الآلهة في معابد آلهة الإنكا وارتبط اسمه ارتباطًا وثيقًا بالبحر.
لم يكن كلام العجوز مجرد هديان بالنسبة إلى عالم آثار من حجم ثور. فهناك بالفعل تشابه ملغز ومحيّر بين التماثيل الصخرية للإله “كون-تيكي” في الجزيرة وبقايا التماثيل الحجرية عند الإنكا في أمريكا الجنوبية.. ما يثير الانتباه أيضا هو أن عاصمة إمبراطورية الإنكا (كوزكو) الواقعة في البيرو اشتهرت بعبادة الشمس وأطلق عليها اسم “مدينة الشمس المقدسة، وهي المدينة التي تحتضن “قمة الجبل القديمة” أو الـ”ماتشو بيتشو” بلغة الإنكا، إحدى عجائب الدنيا السبع الجديدة.
كلها بيانات ومؤشرات زاد فضول ثور. وزاد معه إصراره على تعقب سر التشابه والتطابق بين حضارة سكان بولينيزيا، في جزر جنوب المحيط الهادي، وحضارات أخرى، أبرزها حضارة “الإنكا”. بل الأدهى من ذلك انتشار اللغة البولينيزية بين شعوب تفصل بينها مسافات شاسعة من البحار والمحيطات. فكيف حصل ذلك؟ وفي أي زمان؟ وما تفسيره؟ وكيف يمكن إثباته؟
عرض ثور نظريته على كبار علماء الأجناس والأعراق الأمريكيين، لكنهم قابلوه بالسخرية والاستهزاء وخاطبه هيربرت سبيدن، عالم الأنثروبولوجيا وعالم الآثار والمؤرخ الأمريكي الشهير ورئيس الرابطة الأمريكية للأنثروبولوجيا، ساخرا: “ما عليك إلا أن تجرب الإبحار بنفسك من البيرو إلى جزر المحيط الهادي على متن طوافة من شجر البلسا”..
قبل ثور التحدي وعمل بـ”نصيحة” العالم الأمريكي وشرع في بناء الطوافة، مستخدما خشب البلسا، المعروف محليا. وهو رغم كونه أخف أنواع الخشب، فإنه أكثرها صلابة. أطلقت طوافة البلسا العنان لأشرعها البدائية، وعلى متنها خمسة رجال نهاية أبريل 1947، وهو للإشارة الشهر نفسه الذي شهد نهاية تيتانيك، مبحرة من ميناء “كالاو” البيروفية نحو أرخبيل بولونيزيا. وطبعا، لحقت السخرية والتشكيك طوافة ثور، وأجمع العلماء آنئذ على حتمية غرقها في أقل من أسبوعين، على أبعد تقدير.
وعكس كل التوقعات، ورغم الصعوبات والمخاطر التي ظلت تحوم حول “كون-تيكي” خلال إبحاره عرض المحيط الهادي، فإنه استطاع الصمود مدة 101 يوم، أي ما يقارب ثلاثة شهور ونصف، وقطع مسافة 8 آلاف كيلومتر، حتى وصوله إلى الأرخبيل االبولينيزي وعلى متنه أفراد الطاقم الخمسة، متحديا العواصف الهوجاء وتربص أوابد الحيتان وكل ما لم يكن في الحسبان.
بلغ الـ”كون-تيكي” بر الأمان، وغرق تيتانيك مفندا كل اطمئنان.. حلم عانق السماء ونسي مخاطر الماء، وحلم زهد في العظمة فزاد قدرا ومكانة. فهل هي سخرية القدر، أم دروس وعبر للبشر؟!
لم يبق من تيتانيك سوى حطام يرقد في أعماق شمال المحيط، فيما تربع الـ”كون-تيكي” على عرش متحف يحمل اسمه في العاصمة النرويجية أوسلو، بشكله البدائي لكن بشموخه اللامتناهي.
وانتصر ثور لنظريته المبنية على افتراض أن شعوبا في القدم سخّرت الرياح التجارية للإبحار من البيرو إلى جزيرة أيستر “Île de Pâques” ليصبحوا بذلك مستوطنيها الأوائل. فيما واصل البولينيزيون زحفهم وتمكنوا من استعمار كل من نيوزيلاندا، هاواي وجزيرة أيستر نفسها.
ساق التاريخ نماذج لأوهام وجنون العظمة جسّدت كبرياء واستعلاء الإنسان من أبراجه العالية منذ غابر الزمان من برج بابل (باب السماء) إلى أبراج مركز التجارة العالمي في بلاد العم سام. شموخ وعظمة تبخّرت واندثرت، ونسي التاريخ الحلم لكنه دوّن الحكمة.
الكونتانيك درس يذكّرنا بأن الخيارات المعقدة تحرمنا من السيطرة على الحياة. فالبساطة، كما تذكر بذلك الحكمة، أعمق من التعقيد، وعندما نصل إلى عمق معنى كلمة النجاح نجد أنها ببساطة تعني الإصرار. وبالإصرار تحقق المعجزات. فقط في زمننا ليست المعجزة هي القدرة على الطيران في السماء، أو المشي فوق الماء، وإنما المعجزة اليوم هي القدرة على المشي فوق الأرض.. فهل أقدامنا مثبّتة إلى الأرض بما يكفي لنعاين الواقع ولنحقق المعجزة بهذا المفهوم البسيط؟..