يعيش سكان بلوك ج -13 في ظلّ الحِجر في رمضان للمرة الثانية. مجددا، تُقرّر الحكومة فرض الحظر ليلا. في هذا الحي الخلفي، كما في كامل المدينة والبلد، ستتقيّد الحركة وتُخنق الأنفاس وتُعدّ الخطوات.. تلك أحكام الجّايْحة، وما على الحكومة إلا التنفيذ. كلّ العالم يخضع لفيروس تافه. تعود إلى الأذهان ذكريات التجربة -الكابوس. مرة أخرى، يجد سكان البلوك، أو سْويقة المحاميقْ، أنفسهم “فاصْ أفاصْ” مع الحقيقة، حقيقة أنفسهم وحقيقة الآخر، الأخ والحبيب والزوّج والصديق والجار والعابر، في ظرفية استثنائية، والوبأ مستجدّ ومستبدّ..

عبّاس لعورْ واحدٌ من قاطني ديورْ 13. إسكافيّ (خْرّاز) وبائعُ سجاير بالتقسيط (الدّيطايْ) ووسيط عقاري (سْمسار) ومساعد تاجر ومرشد سياحي غير مرخّص وربما واشٍ ومُقدّم خدمات متنوعة. يقدّم عبّاس خدماته للقاطنات والقاطنين بدون مقابل، غير الله يْرحم الوالدين المأثورة. للعابرين يعرض خدماته ووساطاته مقابل ما يجود به الواحد منهم، حسب طبيعة الخدمة، من نسبة أو بقشيش أو هدايا وأكسسوارات أو حتى وجبات أو ما بقي منها أحيانا.. “سْبع صّنايع”، تستفزّه زوجه هْنيّة الكْعية، متقلّبة المزاج.. يعيش معها عْبيبيس مواقف غريبة ضمن أخرى، في حومة غريبة، خلطت تداعيات الوبأ أوراقها أكثر ممّا هي مخلوطة..

تابعوا معنا، طوال رمضان، هذه “الخالوطة” من الوقائع الغريبة في هذه الحومة الغريبة في أزمنة تحكمها جايْحة غريبة..

(ملحوظة: كلّ تشابُه في الأسماء أو الأحداث أو التواريخ بين ما يرد في هذه السطور والواقع هو من قبيل.. صدفة غريبة)

ع. الرزاق بوتمزار

الحلقة السادسة

ظلّ المسكين يلهث وقد تخلّص، أخيرا وبمعجزة، من قبضتها الخانقة. وضع يديه أعلى ركبتيه وظل منحنيا يلهث بصوت مسموع وبأنفاس متقطعة، قبل أن يشرع في نفض الوحل والبلل عن ملابسه، وهو يتطلع نحوها مرعوبا، كأنه يخشى أن تعاود الانقضاض إليه في أية لحظة. لم نعهدها بتلك الضراوة والشراسة ولا ظننّاها قادرة على سحله بتلك الشدة والفظاظة لمجرّد شكّها في أنه متزوج بامرأة أخرى. كلّ ما كنت أعرف عنها، مثل معظم سكان الحي، أنها “حْقّانية” وتحبّه بطريقتها الخاصة، رغم كل المناقرات التي يمتحان خلالها من أبشع قواميس اللغة.

دنا منه الشّريفْ الحوّات ووضع يده على كتفه وأخذه في اتجاه حطّته التي تكون في العادة أول ما يُنصب في السّويقة. وفي اللحظة ذاتها، وكأنما باتفاق مسبق، سارعت وزوجه خدّوج الصّوطة نحو هْنية وساقتها، مهدّئة نحو منزلها.

-ما تدّيكش عْليها، راه العْيالات هاكّا دايرين، سلعة وحدة.. أعدى شيء عندهوم هو بنادم يفكّر يتزوُج عليهوم واخّا ما…

-أودّي أش من زواج، الله يهديك، واش اللي زهرو طيّحو فصگعة بحال هادي غادي باقي يفكّر فشي زواج ولا نمّي!

قال عباس وهو لا يزال يلهث من أثر الاختناق وهو يشعر بغضب شديد، خصوصا أن الواقعة وقعت في أولى ساعات الصباح. شعر بـ”القْطعة” تتمكَن من دماغه، الذي بدأ تفكيره يُشلّ، خصوصا بعدما لمح جانبا من سْبسي الحوّات في جيب سترته الدّاخلي.

وسرعان ما انفضّ الجمع، متضاحكين، وعاد كل إلى ما كان فيه، وهم يتندّرون على هذه الفرجة الصباحية التي لم تكن في الحسبان. في خضمّ ذلك، كانت هْنيّة قد شرعت، وهي التي كانت في أمس الحاجة إلى من يستمع إليها الآن تحديدا، في الاستماع إلى شكاوى خدوج البكّاية التي لا تنتهي. لم تُمهلها إلا لحظات سألتها عما وقع واستمعت إليها برهة، قبل أن تقاطعها وتشرع في سرد بكائياتها المعتادة.  

وخدوج الصّوطة هذه، وينعتونها بـ”البكّاية”، نوع فريد من البشر، لا شكوى إلا شكواها ولا بكاء إلا بكاؤها ولا قلة زهر إلا قلة زهرها. حتى حين يُفترَض أن تسمع هي شكوى الأخريات، سرعان ما تتبادل معهنّ الأدوار  وتصير المتكلّمة، البكّاية.. في نظرها، هي أكبر مغبونة ومخدوعة ومنحوسة وقليلة حظ وكل الصفات والأمور السلبية، لا شيء ورديا في حياتها، رغم أنها تعيش في بيت أوسع من معظم بيوت السّويقة وأنظفها وأكثرها تأثيثا ونظافة وتأكل كل أنواع السّمك المتاحة، وفوق ذلك يأخذها الشريف في جولات شبه يومية في أطراف المدينة، على متن شاحنته القديمة، التي يغسلها يوميا بالماء وكاڤيل وكل أنواع المطهرات والمعقّمات. لكنْ لا شيء تحت هذي الأرض يعجبها:

-وا غي صبري يا حتي هْنيّة، شتّي أنا وْالله حتى معيّشني فالويلْ اللي ما عمّر شي وْحدة تقدر تعيش فيه.. تْصوّري شحال من مرّة خاصّني غير نگول ليه ما باقيشّ تدخْل عليّ بحوايحك الخانزينْ لبيت النّعاس، وااالو، الحالة هي الحالة. گاع الدار طلاها لي بريحة الحوتْ، من الكوزينة للصالون وحتى بيت النعاس.. أمّا انتِ بعدا راجلك تيضلّ بحوايجو نقيّين ويدخل بيهوم نقيّيينْ، كيّتي أنا اللي…

في لحظة شعرت هْنيّة لأول مرة على ندمها على مرافقة هذه الهْرنونية، بل ندمت حتى على تسرّعها في الحكم على نوايا عْبيبيس وجرجرته بتلك الطريقة. ثم قامت، فجأة، وهي تعتذر لمضيفيها بأنها تركت شيئا فوق النار وعليها العودة فورا، قبل أن تحلّ بمنزلها كارثة. وهرولت، بخفة صبية في العشرين، صاعدة الأدراج، وهي تطلب من الله أن يسامحها على كذبها في رمضان، هذه الكذبة حتى تتخلص من بكائنات خدّوج الصّوطة.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *