أعدها للنشر: المصطفى الحروشي

“رجاء لا تطلب مني أن أصمت”.. “اسمح لي بأن أتنفس”… بمثل هذه العبارات يخاطب “اللاجئ” مصطفى سلمى ولد سيدي مولود، القائد السابق لما يسمى بجهاز الشرطة لدى ملشيات جبهة “البوريساريو” من يطالبونه الكف عن خط حكايات بخط اليد حول أهوال الجحيم، هناك في مخيمات الحديد والنار والقمع والحصار في تندوف فوق التراب الجزائري.

جريدة “le12.ma” تنشر طوال الشهر الفضيل حلقات سيرة ذاتية بطلها إنسان بعنوان “الخروج من فم الثعبان” يروي أسرار تفاصيلها مع عاش تفاصيلها.

والبداية من هنا.

*لا تطلبوا مني أن أصمت

رجاءً، لا تطلبوا مني أن أصمت، اِسمحوا لي بأن أتنفس… هناك من يستكثرون علي هذه المدونة ويريدونني أن أصمت بالمرة لمجرد أنني أخالفه الرأي.

صحيح أني لست كاتبا ولا صحافيا ولا مدونا حتى ولا أتقن قواعد الكتابة. ولكني إنسان قُذف به قسراً وسط نزاع لم يختره، ولما شبّ وأصبح له رأي فيه، قيل له اُصمت. ولما لم يصمت حُكم عليه بالنفي..

فدعونا نعود إلى بداية الحكاية، وليغضب من غضب عن بيّنة ويرضي من رضي عن بينة. و لو أني لا أكتب لأُرضي أو لأُغضِب، وإنما لأشعر بأني موجود.

والحكاية يا سادة أن من جملة ما أذكر عن المرحومة والدتي أنها ولدتني بعد عام “السنيات” بسنتين (1969) تحت ظل خيمة عند “آوليك” في “أودي كنتة”، قريبا من جبال “ارغيوة” في منطقة “مهيريز” جنوب مدينة “السمارة”. وأننا انتقلنا الى المدينة لما تحولت كل البوادي والأرياف إلى ساحة حرب..

لكني أذكر أني كنت أسكن بمدشر “اربيب”، إلى الغرب من مدينة السمارة، وأني كنت أرتاد “السّكويلة”، المدرسة الوحيدة التي تركتها إسبانيا في المدينة، وأني كنت، أخي وأنا، نستيقظ مع أذان الفجر للوصول، سيرا على الأقدام، إلى الدرسة التي تبعد عنا بعدة كيلومترات.

ولعلّ أحلامي حيئذ كانت كأحلام أي طفل عادي يعيش وسط ظروف عائلية مستقرة: منزل، والدين، إخوة، مدرسة وظروف معاشية مقبولة.. وفي لحظة، تختفي هذه الصورة الوردية، وكأنها كانت حلم، فلا تبقى أسرة ولا منزل ولا مدرسة ولا أصدقاء ولا شيء.

تهاجم الجبهة المدينة.. تسقط قذيفة على منزلنا، فيتحول إلى ركام وتُدفن تحت أنقاضه أختَي شهيدتين. يصاب الوالد في الرأس ويُنقل الى المستشفى.

تدخل قوات الجبهة الحيّ. تأخذ من تبقى منا أحياء، وكأننا ملك يمين أو غنائم. يأخذوننا إلى المخيمات في رحلة دامت ليالي وأياما. فتُقرع الطبول وتنشد القصائد والأغاني احتفاء بنا نحن ((المحررين)). رغم أنه لم يكن فينا متسع للفرح، فوجعنا كان كبيرا.

تنتهي الاحتفالات. يعطوننا خيمة وفرنا صغيرا وما تيسّر من الأواني. ويُرمى بنا في بحر لامتناهٍ من الخيام، وعلينا أن نبدأ حياتنا من جديد.

أن ننسى منزلنا وأصدقاءنا ومدرستنا ونألف الخيمة ونصنع صداقات جديدة ونرتاد مدرسة جديدة ونتعرف على معلمين جدد.

والأصعب أن نألف أن نعيش بلا أب. وأن ننتظر من يتصدق علينا بقطعة حلوى، لأننا بلا معيل. وأن تمضي والدتنا الشابة بقية عمرها بلا زوج ولا أنيس، لا لجرم ارتكبته سوى أنها تحب زوجها.

كنت وإخوتي محظوظين، ليس لأننا نجونا من المجزرة، بل لأننا كنا صغارا، فكان وجعُنا أقلّ وتكيفنا أسهل، بخلاف والدتي.

لقد كانت في العقد الثالث من العمر، كافحت وتعبت ليكون لها زوج وأولاد ومنزل وحياة مستقرة. فإذا بها تعود إلى الصفر.

تنسج الحصير ليجد أبناؤها فراشا وتخيط الملاءات وتنسج الوسائد، عليها أن تصنع كل شيء بيديها وتعيل خمسة أطفال، يحتاجون الماكل والملبس، ولا مال ولا معين لها غير الله.

كان عليها أن تبيت الليالي تعدّ النجوم ترجو الله أن يجمعها بوالد أطفالها. ويعلم الله كم ستكون قد ذرفت من الدموع لصعوبة ما مرت به.

وللقصة بقية…                      

فقط. رجاء، لا تطلبوا مني أن أصمت، اِسمحوا لي بأن اتنفس.

*مصطفى سلمى: معارض لقيادة البوليساريو

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *