عبدو المراكشي

تسارعت التطورات بوتيرة “مقلقة” في ملفّ الأساتذة المتعاقدين أو أساتذة “الكونطرا”، كما يحلو للبعض توصيفهم، في خضمّ التدخّلات “العنيفة” التي تفض بها الأجهزة الأمنية احتجاجاتهم ومسيراتهم ، وآخرها “إنزالهم” الأخير، الذي أصرّوا على تنفيذه في العاصمة الرباط رغم أن الجهات المختصّة كانت قد أصدرت بلاغا تمنع فيه كافة أشكال التجمّع والتجمهر في المدينة.

وإذا كان البعض يستنكرون ويندّدون، بل “يحرّضون” ضد كل من له رأي مخالف في هذا الملف “الحارق”، مصطفّين بذلك ضمن خندق مَن يحاولون الركوب على قضية هؤلاء الأساتذة “المغبونين” لأمر في نفس “يعقوب” وفي الأفق انتخابات.. لربما كان قليل من التفكّر والتدبّر في “أصل” الإشكال كافيا لأن يُدركوا بأنّ مَن يجيّشون ويشحذون الهمم الآن من أجل “النزول” إلى الشارع حتى يسيروا بهذه الفئة المتنورة التي يُفترَض فيها، في ظل الظرفية الوبائية التي تجتازها البلاد، أن تركب “تحدّيا” آخر  يتمثل في دعم ومواكبة التلاميذ حتى نخرج بأقلّ الأضرار الناجمة عن توقّف الدراسة، كليا أو جزئيا، وتعويض التعليم الحضور ي بالتعليم عن بُعد، كما حدث في بداية الموسم الدراسي الجاري مثلا، وليس التفكير فقط في استغلال أول “نداء” للنزول إلى الرباط..

فكيف كيف جاء نظام التعاقد؟ وما ظروف وحيثيات وأسباب النزول؟ وما أهم بنوده وفقراته؟ وكيف انتهى إلى ما انتهى إليه من تصعيد وشحن وعنف وعنف مضاد؟ وما موقع المتمدرسين من الإعراب في ظل هذه الاحتجاجات والاعتصامات والمسيرات، التي تعني بالضّرورة حرمان التلاميذ من ساعات وساعات من التحصيل؟.. أسئلة ضمن أخرى نحاول الإجابة عنها في هذه الورقة.

أساتذة التعاقد.. من هنا كانت البداية

في خضمّ اشتداد أزمة التعليم، التي تعود بوادر تفجّرها منذ ثمانينيات القرن الماضي، وربما قبله، في نهاية السبعينيات، بضغط من صندوق النقد الدولي، الذي فرض شروطه في إطار التقويم الهيكلي للمنظومة التعليمية بالمغرب، تفتّقت عبقرية حكومة العدالة والتنمية في بداية نهاية نسختها الأولى برئاسة “المعزول” بنكيران (وتحديدا في 2016) عن هذه التخريجة غير “المدروسة”، والتي عُرفت باسم “الأساتذة المتعاقدين” أو “أساتذة التعاقد” في إطار حملة “توظيف” في القطاع العام، “تفرض” على الأساتذة العمل بعقد عمل يمتدّ عامين، قابل للتجديد.

تبنّت وزارة التعليم نمط التعاقد في توظيف المُدرّسين، في إطار “إرساء الجهوية المتقدمة، من خلال استكمال اللامركزية واللاتمركز في قطاع التربية الوطنية وملاءمة وضعية الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين بصفتها مؤسسة عمومية مع مستلزمات القانون المتعلق بالمراقبة المالية للدولة على المنشآت العامة وهيئات أخرى وتقويتها باعتبارها مؤسسات عمومية تتمتّع باستقلالها الإداري والمالي وتتحكم في مواردها البشرية”.

وذهبت الوزارة الوصية، في بلاغ عمّمته حينئذ، إلى أنه “خلال كافة مراحل عملية التوظيف هذه، وقع اختبارُ جميع الأطر التي جرى توظيفها، سواء من طريق المذكّرات المُنظمة لهذه العملية، أو عن طريق الإعلانات لفتح باب الترشيح لاجتياز المباريات، أو عند الإعلان عن النتائج النهائية، بجميع البنود المُتضَمّنة في العقود التي وقّعها المعنيون بالأمر والتزموا باحترام جميع مقتضياتها بكامل إرادتهم”.

كان “العقد” واضحا ومفهوما لـ”المعنيين بالأمر”، كما ورد في بلاغ الوزارة، والعقدُ شريعة المتعاقدين كما يقول رجال القانون، لكنّ ما حدث بعد ذلك هو أن الأساتذة المتعاقدين رفضوا بنود “العقد” بعد التوقيع عليه.. ليُفتح حوار بين وزارة التعليم وأساتذة التعاقد، أسفر عن إخراج نظام أساسي لـ”أطر الأكاديميات”. لكن “التنسيقية الوطنية للأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد” رفضوا، باعتبار مضمونها يصبّ في التعاقد مع الأكاديميات الجهوية للتربية والتكوين”.

الطرد بدون “حقوق”.. بداية الأزمة

لم يكد الموسم الدراسي الأول الذي شهد العمل بنظام التعاقد في التعليم العمومي يبدأ بفترة قصيرة حتى بدأت حالات “طرد” الأساتذة المتعاقدين ترد ممن هنا وهناك. فقد شرعت الأكاديمية الجهوية في “فسخ العقد” مع أي أستاذ أو أستاذة متعاقد/ة يظهر لها، وفق قوانينها الداخلية أو وضوابطها التنظيمية، أنه لا تتوفر فيه أو فيها “المؤهلات المهنية الضرورية لتدريس المادة” التي أوكلت إليه.

هكذا، بدأت أخبار “الطرد” تتوالى من هنا ومن هناك، فهذا أستاذ يُطرَد في مكناس وأخرى في مراكش وثالث في الدار البيضاء ورابع في بولمان وآخر في تاونات وأخرى في طنجة وزاكورة والشماعية وأولاد فرْج.. وشيئا فشيئا، توسعت دائرة الاحتجاج ضد هذا الطرد “التعسفي”، لتنطلق عملية وشدّ وجذب بين الحكومة وأفواج المتعاقدين في قطاع التعليم ما يفتأ يؤدي إلى مزيد من الاحتقان والتوتر والكر والفرّ.

وبين ليلة وضحاها، بدأ يتّضح للحكومة مدى “ارتجالية” هذا الحل الترقيعيّ المتمثل في نظام التعاقد بدل التوظيف المباشر، الذي تبنّته بدون تخطيط ولا دراسة، كما هو دأبها في معظم الإجراءات والقرارات المصيرية، والذي يندرج في إطار السياسة العامة للدولة المتمثلة في التحكم في كتلة الأجور وضبط الميزانيات العمومية وتقليل نسب البطالة.

وما زاد الطين بلّة أن الأكاديميات الجهوية لا تكتفي، في بعض الحالات، بالطرد “التعسفي” للأستاذ أو الأستاذة المتعاقدة، بل تؤكد أن فسخ العقد لا يخول للمعني أو المعنية به الحقّ في أي تعويض ولا تترتب عليه أية أثار قانونية تجاه الأكاديمية، التي تُلزم الأستاذ/ة المعني/ة أحيانا حتى بـ”إرجاع جميع المبالغ المالية المحصل عليها من هذه الأكاديمية بعد هذا التاريخ”، كما في حالة أحد هؤلاء الأساتذة الذين كانوا قد تعرّضوا للطرد من قبَل الأكاديمية الجهوية للتربية والتعليم في جهة فاس -مكناس.

الاحتجاج والزّمن الدراسي المهدور

خلال الاحتجاجات والمسيرات والإنزالات المتواصلة التي يشنّها “موظفو” قطاع التعليم، لا سيما المعنيين منهم بالتعاقد، ردا على “خروقات” الأكاديميات الجهوية في حق هذا الأستاذ أو تلك، يتموقع التلميذ بين الطرفين، ضحيةَ زمن مهدور، خصوصا إذا وضعنا في الحسبان الظرفية الوبائية الاستثنائية التي طبعها تفشّي فيروس كورونا و”اللخبطة” التي وجدت فيها هذه الحكومة المترنّحة أصلا نفسها، في ظل التخبّط الذي شهده السير العام للعملية التعليمية -التعلمية، بعدما تَقرّر في فترة من الموسم الدراسي إقرار التعلم عن بُعد بدل التعليم الحضوري..

وإذا كان من اليسير على المتبع للشأن التعليمي الاستنتاج بأن هذا الحلّ “سرياليّ” بكل المقاييس، بالنظر إلى افتقار المنظومة التعليمية إلى الوسائل اللوجستيكية والتقنية والبشرية لإنجاح هذه الخطوة، ناهيك عن التفاوتات الاجتماعية الصارخة بين المدن والقرى مثلا، فقد أبان التنزيل “العملي” للفكرة صعوبتها، بل استحالتها بسبب ما قلنا سابقا، وأيضا بسبب عوامل أخرى خارجية تؤثر في العملية.

ورغم ذلك، قدّم الأساتذة، في عمومهم، تضحيات جبّارة وضاعفوا جهودهم، في نكران ذات مشهود به لفئات عريضة منهم، لكانت النتائج كارثية بكل المقاييس.. في خضمّ ذلك، وبعد العودة إلى نظام التعليم الحضوري، وفي الوقت الذي يمني الآباء نفوسهم بعودة أبنائهم إلى فصول الدرس لتدارك ما فاتهم، يفاجؤون بأن إضرابات الأساتذة لا تكاد تتوقف أياما حتى تعود، وقد تمتدّ أياما أيضا، بحسب “البرنامج النضاليّ”  المسطر. وهكذا يُهدَر زمن مدرسيّ هائل، ضحيتُه الأولى المتمدرسون وآباؤهم، الذين لا ناقة لهم ولا جمل في هذا الشدّ والجذب بين المنظومة التعليمية وبين الوزارة الوصية، ومن خلفها الحكومة.

تسييس الاحتجاجات

لعلّ من نافل القول إنّ ملفّ الأساتذة المتعاقدين قد تم تسييسه من قبَل الحزب المعلوم، لخدمة “أجندة” انتخابية لا علاقة لها بهموم المدرّسين ولا بانشغالات المتمدرسين وآبائهم وأولياء أمورهم. فكل هذه “الإنزالات” تتم في سياق محدّد، ووفق توجّهات “مرسومة” لا يمكن أن يكون إلا ساذجا من يظنّ إنها تروم حلّ الإشكال وإعادة المياه إلى مجاريها، بعيدا عن “السياسة” والحملات الانتخابية “المغلّفة”.. ولنا في “الشعارات” التي تُرفع في هذه الأشكال الاحتجاجية المتعددة والمتتالي، وكذا في “توجيه” الرأي العامّ في تعاطيه مع هذه الإضرابات والمسيرات وفق رؤية “أحادية” ممنوع فيها على أي شخص أن يغرّد خارج السرب خيرُ دليل على هذا “التوجيه”. وقد رأينا مؤخرا كيف “نزل” البعض إلى ما دون المستوى في مهاجمة كل مختلف معهم في زاوية نظره إلى القضية والسبل الكفيلة بإنجاحها.

لكنّ الواقع يُعلى ولا يعلى عليه، فإذا كان احتجاج الأساتذة (متعاقدين أو مرسّمين) من حقوقهم المكفولة دستوريا والمؤطرة قانونيا، فإن المطلوب منهم في المقابل هو مراعاة حق التلاميذ في التمدرس والتعلم، وهو الحق الذي “يضيع” أكثر فأكثر في كل إضراب، جهوي أو وطني، أو احتجاج أو مسيرة أو “إنزال”.. وهذا بغضّ النظر عن مدى كفاءة هؤلاء الأساتذة، الذين ليسوا كلهم مؤهّلين ولا حتى مكوّنين من أجل الاضطلاع بمهمة التدريس الشاقة، والتي تتطلب امتلاك مداركَ ومناهجَ وضوابط لا يمكن أن تتوفّر في كل حامل لشهادة جامعية، بغض النظر عن درجتها أو قيمتها العلمية والأكاديمية.

وإذ نأنف بأنفسنا عن الخوض في التّفاصيل، فلا بأس من الإقرار بأن نسبة (ربما كبيرة) من أساتذة التعاقد غير مؤهّلين، معرفيا وبيداغوجيا، للقيام بمهمة تدريس الأجيال القادمة. وطبعا، لا نحمّلهم المسؤولية كاملة، بل إن المسؤولية تتحملها الحكومة، التي سارعت إلى هذا الحل الترقيعي لأكثر منظومة في البلاد لا تقبل الترقيع ولا الارتجال ولا قرارات تُتّخذ بليل…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *