عبد اللطيف الجعفري

 

في فضاء ينضح بعبق التاريخ في المدينة القديمة للدار البيضاء، تنتصب العديد من المحلات الخاصة بإصلاح وتسويق الآلات الموسيقية، في مشاهد تحيل على زمن ممتد من الأنشطة، التي ساهمت في إنعاش المشهد الفني الموسيقي، مع منح متعة لعشاق النغم بمختلف تلاوينه.

هذا الفضاء المسمى “طدرب الشلوح” يستقطب يوميا العديد من الباحثين عن اقتناء آلات موسيقية أو إصلاحها ، بالنظر لشهرته التي تجاوزت ما هو محلي لتعانق آفاقا وطنية وعربية وحتى أجنبية، وذلك بالنظر لجودة بعض الآلات الموسيقية المصنعة محليا، التي ذاع صيتها مثل العود المغربي ، والرباب الأمازيغي والمانضولين، والوتار المغربي بمختلف أشكاله وأحجامه.

لكل قادم ل”درب الشلوح” الشعبي مآرب حسب حاجاته، لكن الذين يترددون على محلات إصلاح وتسويق الآلات الموسيقية لهم هدف محدد يتمثل إما في البحث عن آلة موسيقية محلية أو مستوردة تحمل مواصفات معينة، أو إصلاح عطب في آلة من أجل مواصلة نشاط فني له صلة بالموسيقى ، التي يقال عنها إنها تنعش الروح وتعطيها الحياة.

في هذه الفضاءات، التي تعد نموذجا لفضاءات أخرى تسوق آلات الموسيقى وتصلحها بالدار البيضاء وغيرها من المدن، تتزين المحلات بمختلف الآلات منها سيد الآلات ”العود” بأصنافه، والوتار بأشكاله، والرباب الأمازيغي ببهائه، والمانضولين، والكمان، والهجهوج ، والغيتارة، ومختلف آلات النفخ ط، علاوة على أصناف مختلفة من البندير، والطبل والطعريجة وغيرها.

فبعض هذه الآلات معد للبيع، وبعضها في طور التصنيع، كما أن آلات أخرى توجد في طور الإصلاح، وهو ما أسر به لوكالة المغرب العربي للأنباء، سعيد لحلو ( تاجر مختص في إصلاح الآلات الموسيقية وصناعة المانضولين)، الذي يمارس هذا النشاط لأزيد من أربعين سنة ، وله محل تجاري بدرب الشلوح إلى جانب محلات أخرى تزاول النشاط نفسه.

فعمليات الإصلاح، التي تهم آلات من صنع محلي وحتى مستوردة، كما قال، تركز على أعطاب في الأوتار أو مختلف مكونات الآلات بشكل يعيدها لوضعها الطبيعي، ويجعلها قابلة للعزف أو النقر أو النفخ بشكل جيد، لافتا إلى أن هذا النشاط يتطلب دراية خاصة بمكونات الآلات، ومعرفة فنية موسيقية، وكأنه يحيل إلى ما جاء على لسان إمام الأدباء في العصر العباسي، الجاحط الكناني، الذي قال يوما ”إن الموسيقى كانت بنظر الفرس أدبا، وبنظر الروم فلسفة، أما بنظر العرب فقد أصبحت علما“.

وما دامت الآلات الموسيقية هي عماد الإنتاج الفني الغنائي سواء الاحترافي أو الهاوي، يضيف السيد لحلو، فإن وجود محلات لإصلاحها يساهم في إنعاش المشهد الموسيقي، خاصة في ظل الإقبال الكبير على اقتناء آلات موسيقية.

وينطوي هذا النشاط على قصص وحكايات، لا يزال السيد لحلو يتذكرها جيدا، منها تردد فنانين وملحنين مغاربة وعرب ، وأساتذة معاهد الموسيقى، وشباب ، وبعض عشاق الموسيقى على محله التجاري، منهم الفنان الراحل محمود الإدريسي ، والمهدي عبدو شقيق عائشة الوعد، وغيرهم، وذلك من أجل اقتناء أوتار أو إصلاح آلات، أو اقتناء بعضها خاصة تلك التي تصنع محليا، مثل المانضولين كالذي تستعمله مجموعة لمشاهب.

ومن الآلات التي تجد إقبالا كبيرا من حيث تسويقها، آلة العود التي تصنع محليا، حيث لفت السيد لحلو إلى أن المغرب يحتل مراتب مهمة في صناعة آلة العود على المستوى العربي ، مشيرا إلى أن العود المغربي مطلوب من لدن فنانين مغارب، وعرب وحتى أجانب، بالنظر لميزته وجودته من حيث عملية تصنيعه وحتى صوته.

فسواء تعلق الأمر بآلة العود المحلية أو المستوردة، فإن ثمنها يغني عن التعرف على قيمتها وجودتها.. فالأثمنة تبدأ ب 500 درهم وتصل إلى 6 آلاف درهم ، وقد يصل الثمن، حسب لحلو إلى 15 ألف درهم بالنسبة لأصناف جيدة جدا من العود.. ويصل ثمن الرباب الأمازيغي إلى 700 درهم، فما فوق.

أما المانضولين ذي الصنع المحلي، فيتراوح ثمنه ما بين 500 إلى 1700 درهم، في حين يبدأ ثمن الوتار من 150 درهم إلى 200 درهم، وهناك ما هو أغلى من ذلك ، لافتا إلى أن هناك آلات وتار كبيرة كتلك التي يعزف عليها أيقونة الأغنية الأمازيغية محمد رويشة، وفي المقابل هناك آلات متوسطة، ثم صغيرة جدا كتلك التي تستعمل في روائع فن الملحون،

وإذا كانت عمليات إصلاح الآلات الموسيقية مهمة للغاية لأنها تمدد من عمرها خاصة إذا كانت فريدة ولها رمزية معينة ، فإن عمليات التسويق لا تقل أهمية لأنها تروج بضاعة تعود بالفائدة على المهنيين.

وهنا تحديدا تبرز أهمية عالم الرقمنة، الذي يساهم أكثر في التواصل والتعريف بمنتوج الآلات الموسيقية المحلية ، وهو ما يدفع فنانين عرب وحتى غربيين للبحث عن بعض الآلات في المغرب ربما لأنها تقدم قيمة مضافة من ناحية العزف والنغم ، كما جاء على لسان السيد لحلو.

في الماضي القريب كانت الآلات الموسيقية ، مثار اهتمام المطربين والملحنين وأساتذة الموسيقى والفنانين وبعض عشاق الغناء فقط ، كما أكد ذلك  لحلو، أما في الوقت الراهن فإن العديد من الشباب سواء أكانوا طلبة في معاهد الموسيقى أم عشاق للموسيقى، مهتمون أكثر باقتناء آلات موسيقية معينة ، من أجل إشباع شغفهم الفني، تماشيا مع التطور الفني والاجتماعي والعمراني.. فالعلامة عبد الرحمان ابن خلدون كان دقيقا بشأن هذا الطرح حين قال ”إن العمران يعد سببا في تطور الموسيقى في المجتمعات“.

وحسب هذا التاجر، فإن الآباء يقومون في بعض الأحيان باقتناء آلات موسيقية لأولادهم من أجل تشجيع ممارسة هواية فنية معينة تندرج ضمن خانة المتعة، وهو الأمر الذي لم يكن موجودا سابقا،

ويبقى بيت القصيد في هذه العمليات برمتها ، هو مستقبل هذا النشاط المهني، حيث اعتبر السيد لحلو أنه ”واعد”  في ظل وجود الخلف، والشغف الكبير بالموسيقى، التي قيل عنها إنها أبجدية مغايرة لمشاعر عجزت عن وصفها الكلمات والحروف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *