محمد الجلايدي
“صداقة الرجال” عنوان لمقالة كتَبَـها بقلم الخصب والسخاء معلمنا الروائي السوري “حنا مينة” ، ونشرها ضمن كتابه “هواجس في التجربة الروائية”. ولكي لا يميل القارئ إلى الإنزياح عن القصدية الدلالية لمعنى”الرجولة” ، وحصْرِ المعنى في “الذكورة”، أثار حنا انتباه القارئ إلى قصديته في فقرة من فقرات المقال،موضحا فيها أن “الرجولة” تعني لديه “الشهامة” وكل قيم النبل العلائقي، ولا علاقة للمعنى بأي شكل من أشكال التمييز بين الجنسين. وبناء عليه، يصير معنى “صداقة الرجال” ، الذي استهدفه ، كل علاقات الصداقة التي تتصف بالشهامة، وتتخضب بأريج الحب، والتقدير، والإحترام، وبحِنّـاء المشاركة الوجدانية في الأفراح والمسرات، وفي الأحزان والآلام! وفي معرض المقالة، أشار حنا إلى التجربة الحياتية على مستوى علاقات الصداقة لـ”أرنست همنغواي” . وبكل تواضع النبل، اعتبره مثالا ونموذجا لـ”صداقة الرجال”! ومن ضمن ما قاله حنا عن همنغواي: أنه كان يسافر من هافانا إلى باريس يوما وليلة ، ليلتقي بأصدقائه. يقضي معهم ساعة أو ساعتين، ثم يعود على متن القطار، الذي يكلفه زمنا: يوما وليلة مرة أخرى! بما يعني دلاليا، أن الرجل يتحمل عناء يومين وليلتين من السفر، من أجل ساعة أو ساعتين مع الأصدقاء! لذلك، استحق همنغواي في وجدان حنا لقب “معلم” في معنى “الصداقة” التي ترتفع إلى مصاف العلاقات المرتكزة على قاعدة الشهامة وقيم النبل العلائقية!.
أذكر بأنني قرأت كتاب هواجس حنا الروائية، في منتصف الثمانينات. وأذكر بأنني قرأته العديد من المرات. أما المقالة المرتبطة بـ”صداقة الرجال”، فإنها ظلت على طول المدى معي، في كياني وعلى الورق! لتشكل لي مرجعا يصقل فهمي باستمرار لمعنى الصداقة بهذا المعنى الراقي، في نسيج علاقاتي التي يجود بها علي واقعي المرجعي الحي ! فأعود إلى المقالة كلما تفتقتْ علاقة صداقة ما، بعطر شهامة ما، أو كلما طفح كيل القبح والنذالة على علاقة ما! وكنت أمام كل قبح علائقي، أسرع إلى الغوص في ثنايا المقالة ، فأُشفى بالسرعة نفسها من لظى القبح وحرقات النذالة! أكسر بالعقل هذه العلاقة، وأنزعها من قلبي، ولو كان النزع مُدمى! وبعدها أُشفى! أما مع عطر الشهامة، فإن المقالة تسيجني بصرامة، من مغبة الخطإ مع الصديق. وهو حرص بالقدر الذي يصون العلاقة، يوفر لها كل إمكانيات الشهامة، التي تعلي مكانة الصديق في قلبي ووجداني، وتعليني مكانة في قلبه ووجدانه!.
بهذا الفهم، وبهذا المعنى الشامخ في الرقي، وجدتُ نفسي في لحظة من أدق اللحظات، أستدعي من دون وعي، وبكامل التلقائية، كل علاقاتي الإجبارية والإختيارية، وفي مقدمتها صداقاتي؛ وأنا أهم بكتابة إهداء، ليتصدر بحثي بمناسبة نهاية الدراسة الجامعية، لما قررتُ إعادة تكويني الجامعي للمرة الثانية. كان البحث في ثلاثية حنامينة: (حكاية بحار-الدقل- المرفأ البعيد)، وكان الإهداء مخضلابندى مقالة حنا:
-“صداقة الرجال”!
فكتبت الإهداء التالي تحديداً، أعيده نصّاً ومحمولاً:
– إلى ابنتي وغاليتي ورفيقتي صفاء الجلايدي..
– إلى الإنسان في كل من: الروائي حنا مينة، الفنان صباح فخري، ورائد القصة القصيرة زكريا تامر؛ في زمن “دمشق الحرائق” ..
– إلى بلدي، الذي تنبع أنهره من جباله الشامخة، وتصب في بحْرَيْـه، ومدينتي القنيطرة، ساحرتي، ومعذبتي..
– إلى كل أصدقائي القدامى والجدد، الذين جمعتني بهم “صداقة الرجال” التي جسدها همنغواي، وحمل شعارها معلمي حنا مينة..
(وانتهى نص الإهداء عند هذا الحد)!.
الآن وأنا أستحضر هذه اللحظة الدقيقة في مسار حياتي، تحضرني بالموازاة لها، كل من حضرني من أصدقائي القدامى والجدد، الذين جمعتني بهم “صداقة الرجال”، أثناء تدبيج الإهداء: هم قلة ، نعم، وهم يعرفون مكانتهم الغالية في وجداني، نعم. منهم من رحلوا، وكتبتُ عن لوعات فراقهم بحرقة ومرارة. ومنهم من لا يزال في عمرهم متسع للبقاء، وما بَدَّلُوا تبديلا! ومن بينهم، على سبيل المثال لا الحصر، ومن دون تراتبية:
– سي محمد لكفيفي!
فمن هو هذا الرجل؟ ومتى وأين كان اللقاء الأول؟ وكيف تشكلتْ بِنَا وفينا “صداقة الرجال”؟
-سي محمد لكفيفي:
رجل إذا أنصت سمع بحس مرهف، وإذا تكلم نطقت شفتاه بعين العقل. وإذا مد يده إلى الجرح، فبرفق حنون يلامسُه. يشارك بسخاء الأرض فرح الصديق. ويؤازر بزرقة السماء حزن الصديق. بشوش دائم البسمة. متفائل دائم التمسك بالأمل، صادق، صبور، مكافح، متفهم، حافظ للسر، عاشق للنبل، محب للجمال، مفعم به، وإذا ما أردتُ تكثيف كل صفاته أقول في جملتين: رجل قَلّ وجوده في زمن القحط الوجداني- رجل صار نادرا في سياق تنامي مواسم اللهفة خلف مطلق اللهفة، وخلف طباع الجحود العلائقي!.
أول لقاء لنا ، كان في شهر شتنبر سنة 1980، بمركز تكوين المعلمين بمدينة القنيطرة. جمعنا هذا الفضاء، وجمعتنا في غمرة مشواره غصة في القلب، كان لكل منا غصته، وكان مبعث الغصة تلك واحد: لم نكمل تعليمنا الجامعي ولم نحقق حلمنا الأكاديمي. أرغمته قساوة الظروف على مغادرة رحاب الجامعة بفرنسا. وأرغمتني الدولة على مغادرة شعبة الفلسفة، لما أقدمت على قرار إلغاء هذه المادة من التعليم! وكي لا أتحول إلى “فيلسوف” يحتاج من الناس “خبزة”، قررت ضمان هذه “الخبزة» أولا، في انتظار إيجاد حل مع كُـرْهِ الدولة للفلسفة ! وعندما توطدت علاقتي بهذا الرجل، تقاسمنا الحديث عن غصة كل منا. فقررنا أن نحول هذا الإحباط إلى قضية حياتية: أن نعمل، وفي الآن نفسه، نواصل تكويننا الأكاديمي. لم يكن الأمر يسيرا، لذلك وضعنا اليد في اليد، وتعاضدنا من أجل رفع الهمة، وشحذ العزم، كي ندلل الصعوبات. وأول الصعوبات مواجهة المذكرة الوزارية المشؤومة، التي تحمل رقم 504. هذه المذكرة لا تسمح للموظف بمتابعة دروسه الجامعية إلا بترخيص مشروط! بعد سنة من العمل، تقدمنا بالطلب، فحصلنا على الترخيص، الذي يسمح لنا بالتسجيل في الكلية، لكن في السنة الموالية! وخلالها انطلق كل منا في مشوار تحقيق هذا الطموح المغتصب! أقول الآن بهذا الخصوص: ما أروع أن يلتقي الناس في علاقات حول قضية! لأن القضية توهج العلاقات، وتمنحها الكثير من إمكانيات التنامي الإنساني الخصيب ! وذلك ما كان مع سي محمد لكفيفي!.
كانت اللقاءات بيننا، في خلواتنا الخاصة، رغم التراخي الزمني بينها، كما لو كانت حطباً يذكي ناراً مشتعلة، فيزيدها توهجاً واشتعالاً، لننعم بدفء علاقتنا الحميمة! وهو دفء كثيراً ما شمخ في كيان كل منا، خاصة عندما نلمس وندرك هول الصقيع العلائقي من حولنا! وعند كل لقاء، نستأنف أنسنا الخاص بمواصلة الأحاديث، من نقطة ما انتهى إليه الحديث في اللقاء السابق! أما محاور دورات الكلام بيننا، فموضوعاتها تروح، ذهاباً وجيئةً ،في مسارب الحياة العامة وقضاياها، وحياتنا الخاصة وتحدياتها! وعبر هذه المسارب، تبرز الكثير من مواقف الشهامة، كالإشراقات! وعلى كثرتها تحضرني واحدة لي، وواحدة له:
حلـت امتحانات الشفـهي بالكـلية بـعد نجاحنا في الكتابي. فسافر سي محمد من الخميسات إلى الرباط قبلي. ومن غرائب الصدف، لما سافرت من المدينة نفسها إلى الرباط، التقيته عائدا من الكلية: أذكر بأنه كان غاضبا. ومبعث غضبه تصرف أستاذ بغير لباقة. مما حمل صاحبي على المغادرة دون إكمال الإختبار في المواد المتبقية له. أخبرني بما حصل، فلم أَجِد أي عنصر يعزز الغضب، الذي حمله على المغادرة. طرحت مقاربتي التحليلية للوضع، وطلبت منه العودة إلى الإمتحان ، ففعل. رحنا معا إلى الكلية، وأنجز كل منا اختباراته، وعدنا إلى حال سبيلنا. وعند إعلان النتائج نجحنا! فاعتبر من يومها تدخلي الذي جادت به الصدفة، طفرة في مسار! أما أنا فقد اعتبرتها انتصاراً حياتياً لنا معا ضد اغتصاب طموحنا المشروع في حياتنا التعليمية، وانتصاراً على أنفسنا معاً أيضاً!!
أما إشراقة الشهامة التي له، فهي من نوع الإشراقات (الهمنغوية) على الطريقة المغربية! ولروعتها في كياني، تحضرني كلما حضرني طيف سي محمد في ذاكرتي:
– كان اليوم يوم عطلة. وكان يمشي راجلا صوب مقهى من مقاهي الخميسات. ولما مر بجانب ساحة سيارات الأجرة الناقلة بين المدن، تناهى إلى سمعه صوت، يخبر المسافرين قائلاً: مقعد واحد شاغر إلى القنيطرة. وبعفوية واندفاع تلقائي، قلب سي محمد سيره اتجاه المقهى، ليملأ المقعد الشاغر إلى القنيطرة. ولما وصل، عانقته وعانقني! لكن وهو يتبادل التحيات مع أسرتي، تذكر أسرته! فطلب مني أن نخرج بحثا عن هاتف عمومي، حتى لا يقلق على غيابه المفاجئ، أهلُـه! ولما حكى لي تفاصيل ما وقع، أصبت بالذهول! وقفز في ذاكرتي ما حكاه حنا مينة عن همنغواي!!! ومن يومها وأنا أنعته في كياني من دون لغة أو صوت:
– سي محمد لكفيفي: كهمنغواي، لكن على طريقته!!!
وها هو الوقت قد حان، لأقولها بالفم الملآن له، وللعالم أيضا!
– هذه الصورة/المرفق، التقطتها له ونحن معا على ضفة نهر سبو عند المصب. كان اللقاء بعد تيه تجاوز العشر سنوات. عانى وهو يبحث عن هاتفي.. وأنا في تعداد الأموات/الأحياء..ونجح في تكسير غربتي واغترابي وتيهاني القسري!!!
أحبك أيها الغالي ..
و”بقلبي مسكنٌ أنتم به”!!!
*قاص مغربي