ذ.إدريس الكرش

 

لعل أي مجتمع أصيب بالنسيان أو فقد جزءا من ذاكرته هو مجتمع تحدق به أخطار الزيغ عن الجادة ويرضخ بسهولة لجميع أشكال الانحراف والهيمنة، كما أن رد الإعتبار لأية ثقافة يبدأ عبر رد الإعتبار لمظاهرها الرمزية.

وقبل الخوض في نفض الغبار عن بعض المظاهر الرائدة في ثقافتنا، والتي تعد خير شاهد على عمق الحضارة المغربية وغناها من خلال تنوع مكوناتها، أتمنى أن تعطى أهمية كبرى ومستحقة لتراثنا وثقافتنا الشعبية، من طرف المسؤولين على الشأن الوطني برمته.

واليوم يصادف منتصف منزلة الليالي التي تدوم 40 يوما حيث تدخل يوم 25 دجنبرمن كل سنة وتخرج(تنتهي) يوم 2 فبراير، لذا يكون منتصفها اليوم العشرين الذي يصادف يوم 13 يناير، وهي مناسبة تزرع فيها شعلة للحرارة في باطن الأرض، بلغة الفلاحين، بمعنى بداية ارتفاع درجة الحرارة وتراجع برودة الطقس القاسية التي تؤثر على جميع الكائنات الحية ( نباتات- حيوانان-إنسان…) في وقت يكون الفلاح منشغلا في مشاريعه ذات الصلة بالأرض، وقد استطاع هذا الفلاح العامي أن ينظم سنته الفلاحية زمنيا بقوله : 40 يوم قبل الليالي ليالي – و40 يوم هي الليالي بروحها و40 يوم تتلقح فيها الدوالي – و40 يوم تتهز العودة رتوعها – و40 يوم هز الغمرة ولوحها ) بمعنى 40*5 =200يوم . ويحرص الفلاح على تشذيب أشجار الغلة في هذه المنزلة : “زبرني ف الليالي ولا خليلي ديالي”، وتسجل الثقافة الشعبية اعتزاز الإنسان البدوي بأرضه وعشقها حتى النخاع، كيف لا وهي المعطاء التي تجود يوم الجفاء,ولهذه الأسباب يخص الفلاح منتصف الليالي بجعله يوما احتفاليا باعتباره رأس السنة الفلاحية، تعد فيه الوجبات” تختلف تسمياتها باختلاف مناطق المغرب: الرفيسة – مضهوسة – هربل- ؤركمين –الكسكس بـ7 خضاري- ولعل القاسم المشترك بين الوجبات هو ذبح الدجاج البلدي أو الديك الرومي الأسود والبيض البلدي، مع الحرص على إدخال الحبوب والقطاني وخضر الموسم، كل هذا تكريس للإحتفال بالأرض وخيرات الطبيعة، وقد تجتمع بعض الأسر وتتزاور فيما بينها مباركة “لعواشر” وسنعود للحديث عن مظاهر الإحتفال بعد النبش في ذاكرة التراث لمعرفة المسكوت عنه لدى عامة المغاربة، حيث جهل كثير من جوانب هذه المظاهر الإحتفالية، التي تعبر بكل مصداقية عن مدى تغلغل بلادنا في عمق الحضارة والتاريخ.وسنحاول سبر أغوار السؤال الآتي: من يقف أمام طمس هوية المغاربة الكاملة ؟؟ وما المقصود من ذلك ؟؟؟ ولعل سبب تنزيل هذه الأسئلة يكمن في أن يوم 13 يناير من كل سنة هو رأس السنة الأمازيغية الذي يصادف منتصف الليالي حيث الإحتفال” بحاكوزة” فالمصطلح لصيق بالسنة الأمازيغية منذ2971 سنة، حوالي     29 قرنا ونصف، ويتبادر إلينا سؤال آخر: لماذا تم سلخ مظاهر الإحتفال برأس السنة الأمازيغية والاكتفاء بالسنة الفلاحية ؟؟؟؟ على أي ستحل السنة الأمازيغية اليوم 13 يناير الحالي وهي السنة 2971 –ئخف أسكاس- يعني رأس السنة، أما يناير فيعني: كلمة مركبة من يان: واحد ويور: شهر( يان يور).

ويعد التقويم الأمازيغي من أقدم التقويمات 951 ق.م وهو غير مرتبط بحدث ديني أو عقائدي كما هو الحال بالنسبة للهجري (هجرة الرسول ص) أو الميلادي ( ميلاد عيسى عليه السلام)، لكنه مرتبط بحدثين هامين : 1-أسطوري 2- سياسي تاريخي.

1- الارتباط الأسطوري: تحكي بعض المعتقدات الأمازيغية القديمة أن عجوزا –حكوزا- استهانت بقوى الطبيعة واغترت بنفسها وبرهنت عن صمودها في وجه الشتاء القاسي إلى قوتها ولم تشكر السماء, مما دفع ” يان يور- يناير- وهورمز الخصوبة إلى استعارة يوم واحد من ( فورار) فبراير,ليعاقب به العجوز على جحودها ,فحدثت عاصفة أتت على كل ما تملك العجوز,وتحول اليوم إلى ذكرى مأساوية ارتبطت في الذاكرة الجماعية برمز للعقاب .ومن هنا بدأ استحضار يوم العجوز( حاكوزة- عاجوزة ),وهو يوم حيطة وحذر يتجنبون الخروج للمراعي والأعمال الزراعية,خوفا من انتقام قوى الطبيعة.

2- الارتباط التاريخي السياسي: هذا اليوم يؤرخ لواقعة هزم الأمازيغ للمصريين القدامى(الفراعنة) واعتلاء زعيمهم شيشرون للعرش الفرعوني وذلك 950 ق.م وهو يوم متداول لدى جميع سكان شمال إفرقيا، حيث تقاسم نفس مظاهر الإحتفال، وأملنا كبير في عودة حلم المغرب الكبير، للإحتفال بيوم وطني موحد إسوة بالسنة الهجرية – مع العلم أننا نبخسها حقها – ونغدق في مظاهر الإحتفال بسنة ميلادية لاتربطنا بها سوى منظومة العد التراتبي للحصول على رواتب الشهورأوضبط مواعيد الأطباء وجلسات المحاكم.

* الطقوس ومظاهر الإحتفال: لعل احتفال المغاربة بحاكوزة، لا يختلف كثيرا عن مظاهر الإحتفال بباقي المناسبات الدينية، يعتبرونها محطة لتبادل الزيارات ويعدون وجبات خاصة مما انبتت الأرض من فولها وعدسها وبقولها ,تختلف تسمياتها من منطقة إلى أخرى: الرفيسة أو المضهوصة بالغرب – وكسكس 7 خضاري بالحوز- وؤوركمين بالقبائل الأمازيغية، وهي وجبة تضم جميع أنواع الحبوب والقطاني التي أنتجتها الأرض، وهي نوع من (الشوربة) يتم توزيعها على أطفال الدوار الذين يطوفون بجل البيوت مرددين طلبهم ل ؤوركمين…. ويرجح بعض الباحثين في مجال الأطعمة التراثية أن أوركمين هي أصل الحريرة المغربية. ويحاول متناولو الوجبة تحقيق الإشباع البطني في تلك الليلة مخافة السقوط في فخ مقولة: “لي ما شبع هذ الليلة يبقى جيعان طول العام”، يعني من لم يشبع في هذه الليلة سيبقى جائعا طيلة السنة. وتتكون “أوركمين من: كرعين الغنم أو الماعز- حمص-عدس- لوبيا- فول- ذرة-قمح-لفت –جزر”.

وغالبا ما تكون هذه الوجبات اليلية” إمنسي” العشاء، احتفاء بالسنتين الفلاحية والأمازيغية لدى المغاربة الأمازيغ، العارفين بتاريخهم، ويكون الطعام رمزا للخصوبة والغنى ووفرة المحصول( بركوكش- التريد- بالدجاج البلدي- العصيدة).

* العصيدة أو تاكلا أوتكلات، بالأمازيغية أكلة مشهورة ذات رمزية عميقة في الثقافة المغربية منذ القدم ,تبرز مدى تشبثهم بالأرض، ولا تخلو مظاهر الاحتفال من الفرجة من خلال اختيار رجل أو امرأة السنة صاحب أو صاحبة الحظ السعيد، حيث تدس حبة تمرداخل الوجبة ,وكل من صادفته فهو الفائز معنويا: وسيكون متفائلا بسنة الخير والنماء ,والخصوبة بالنسبة للعاقرات، وقد استطاع الإسلام أن يقضي عن بعض المظاهر الوثنية ( وضع الطعام تحت الموقد –أعمدة البيت..- تجنب الاغتسال وتنظيف البيت باعتبار اليوم، يوم نزول البركة خوفا من غسلها…) وأضحى التوجه لله تعالى عبر تلا وة القرآن الكريم والدعاء بالخير والرزق والبركة والإستسقاء.

وتتقاطع اللعبة مع –قصعة أم لعروس بجهة الغرب الشراردة، حيث تدس تمرة أو دملج فضي في “قصعة”الكسكس,الذي تعده أم العروس، وكل من صادفته يؤدي ثمنها (يغرمها)

* ذ.إدريس الكرش/باحث في التراث الشعبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *