كشف الصحفي رشيد نيني،  أشهر كاتب عمود في المغرب، عن محكيات وطرائف  توثق لعلاقة الرجلين، ظلت بعيدة عن علم الرأي العام،  حتى وثق البعض منها في هذا المقال الذي تعيد جريدة le12.ma  عربية ، نشره وفاء لروح الوفا.

 بقلم ذ : رشيد نيني

شاهدت محمد الوفا لأول مرة في مقر جريدة العلم بشارع علال بنعبد الله بداية التسعينات. كان يضرب الأرض بحذائه الأسود وهو يمشي متحدثا بصوت جهوري في الكولوار المؤدي إلى مكتب المدير عبد الكريم غلاب الموصول بدوره بباب مع مكتب رئيس التحرير عبد الجبار السحيمي، رحمهما الله.

كان محمد الوفا يشغل بالإضافة إلى وظيفته كأستاذ جامعي لشعبة الاقتصاد بجامعة محمد الخامس مهمة مدير مطبعة الرسالة التي تطبع جرائد الحزب. وبالتالي فقد كان توقيعه ضروريًا إلى جانب توقيع عبد الكريم غلاب على شيكات تعويضات المتعاونين، الذين كنت واحدًا منهم آنذاك. كان تعويضي الشهري لا يتعدى ألف درهم، لكن هذا المبلغ كان حيويا بالنسبة لطالب في سلك الدراسات العليا بالعاصمة.

ولهذا عندما كنا نحن المتعاونين مع جريدة العلم نلمح ظل محمد الوفا بمعطفه الكاشمير الطويل يضرب الأرض بحذائه في الكولوار نعرف أن التوقيعات تم وضعها على الشيكات وأن الله فك كربتنا.

مرت مياه كثيرة تحت الجسر، وذهب محمد الوفا لشغل مناصب دبلوماسية كسفير في الهند وإيران والبرازيل قبل أن يعود لكي يتسلم حقيبة وزير التعليم في حكومة بنكيران الأولى. وطيلة هذه السنوات احتفظت عنه بصورة شخص صارم وعصبي.

كان الوفا مادة صحفية دسمة بسبب تصريحاته الطريفة والمباشرة. لا يكف عن منح الصحافيين خبرا أو تعليقا يتداولونه لأيام. كان زبونًا جيدًا للصحافة كما يقال. ولذلك فقد كتبت مطولًا حول الفترة التي أدار فيها وزارة التعليم. أحيانًا بقسوة. لكنه لم يتصل بي هاتفيًا ولأول مرة سوى عندما كان وزيرًا للشؤون العامة في النسخة الثانية من حكومة بنكيران التي غادرها حزب الاستقلال وبقي فيها الوفا للأسباب التي شرح لي في ما بعد، والتي لن أكشف عنها، مثل كل ما أسر إلي به من أسرار وحكايات عاشها طوال مساره السياسي والدبلوماسي والتي كان دائما ما يختمها قائلا “عنداك تمشي تكتب هاد الشي”.

اتصل عبر الهاتف ضاحكا نافيا خبر نية الحكومة الزيادة في ثمن البوطا، طالبا مني بأدب نشر تكذيب.

بعد ذلك دعاني إلى بيته القديم في بداية طريق زعير، وبعد ذلك صرت أذهب إلى بيته الجديد في دار السلام حيث كانت تحتفي بنا زوجته مدام عواطف ابنة الزعيم علال الفاسي وتعد في كل مرة الحلوى والشاي وتلك المسيمنات الشهية المعمرة بالخليع.

كان أول سؤال طرحته عليه عندما حللت ببيته يتعلق بأمر ظل يحيرني. سألته أولًا إن كان شعره هذا الذي فوق رأسه حقيقيًا أم أنه يضع باروكة، وثانيًا إذا كان شعره حقيقيًا فهل سواده طبيعي أم أنه يقوم بصباغته.

أطلق ضحكته المعتادة والتي تعقبها كحة قدماء المدخنين وقال إن الأمر يتعلق بشعره وأنه لم يصبغه قط وأن كثافة الشعر وسواده وراثيان لديهم في العائلة.

كانت لمحمد الوفا شهية مريعة للأخبار، يحب الاطلاع على كل المستجدات ويصيخ السمع بعناية شديدة عندما يتوقع منك أن تطلعه على خبر جديد أو تحليل لوضع سياسي أو مجرد تعليق على حادث. بعدها كان ينفجر ضاحكا ويردد جملته المعتادة :

“ولايني راك بالا”.

ورغم علاقاته المتشعبة وصداقاته التي تخترق كل الأحزاب والطبقات والصالونات المدنية والعسكرية فقد كان متواضعًا عندما يتعلق الأمر بسماع تحليل مغاير. كان يعتدل في جلسته ويأمر من يكون آخذًا في الحديث قائلًا له: “سكتنا نتا شوية شحال فيك دلهضور”.

ثم يمد عنقه نحوك كمن يريد أن يجعلك تشعر أن ما ستقوله سيقلب تفكيره ومواقفه. لكن الذين يعرفون محمد الوفا يعرفون أن “حسابو فراسو”، فكل المواقف التي أخذ والمعارك التي خاض كانت تستجيب لأخلاق رجل الدولة الذي يضع المصلحة العليا فوق كل اعتبار.

فقد عاش نزق الشباب في الجامعة أيام الملك الراحل الحسن الثاني وانتهى به الأمر في السجن بمراكش فترافع من أجل إطلاق سراحه المحامي مولاي امحمد الخليفة، وبقي تحت جناحه إلى أن غادر العش بجناحيه واستطاع أن يحكم مراكش لعشر سنوات.

بعد ذلك سيعيش الفترة الذهبية للبرلمان، قبل أن يرسله القصر في رحلة حول العالم سفيرا لمدة 12 سنةً في بلدان بعيدة أعد في بعضها زيارات ملكية.

عندما عاد محمد الوفا إلى المغرب وجد أن الحزب تغير والناس تغيروا والسياسة تغيرت. حاول تخليص الحزب من يد ميكانيكي سابق اسمه شباط لكنه فشل بسبب عباس الفاسي الذي ظلت علاقته بالوفا مطبوعة بالتبرم.

وحتى عندما كاد الوفا يموت قبل سنتين وأجرى عملية جراحية معقدة ومستعجلة جاء عباس الفاسي لمعايدته لكنه ظل في صالة الاستقبال ولم يصعد لرؤيته.

في كل مرة كنا نلتقي سواء حول المكسرات وكؤوس الشاي في شرفة منزله بدار السلام أو حول قطبان الكباب والبيتزا في مطعم لاماما كان دائما ما يترافع عن صديقه بنكيران مرددا عبارته المعتادة “تكايس لينا على السيد”.

كنت أقول له إنني إذا توقفت عن مراقبة عمل الحكومة فإنني “غادي نخرج شوماج”، فكان يقهقه إلى أن تغرورق عيناه بالدموع.

كان محمد الوفا محبًا للحياة مقبلًا عليها، عندما يحدثك عن أسفاره في التايلاند والفلبين والفيتنام ترى فرح الأطفال في عينيه وهو يحكي عن غرائب هذه البلدان، وعندما يحدثك عن البلدان التي ينوي السفر إليها مستقبلًا يفعل ذلك وكأنه سيعيش أبدا.

وإذا كان الجميع متفقًا حول شيء بخصوص محمد الوفا فهو أنه عاش نظيفًا ولم يسجل عليه يوما أنه مد يده للمال العام، ولذلك فقد كان يسمح لنفسه باتخاذ مواقف صارمة وأن يقول الكلام الذي لا يستطيع أن يقوله سوى من بطنه خالية من العجين وفمه خال من الماء، وهذه فصيلة في قبيلة السياسيين أندر من أسنان الدجاج.

ولذلك فإذا كنت تريد قضاء مصلحة وطلبت وساطة محمد الوفا فتستطيع أن تنتظر حياتك كلها دون أن ترى نتيجة، فقد ظل يتجنب شيئين في حياته، أن يتدخل من أجل الآخرين لأنه يعلم علم اليقين أن ذلك سيكلفه تنازلًا ذات يوم، وأن يمنح المال للمتربصين بالمشاهير والمسؤولين في شوارع العاصمة، وكم هم كثيرون وبارعون في الاحتيال. وعندما كنت أسأله كيف يصنع لكي يتخلص من هؤلاء المحتالين دون أن يكلفه ذلك درهمًا واحدًا كان رحمه الله يقول إنه يخبرهم بأن المدام تمنع عليه أن يحمل النقود في جيبه وأنه يخرج فقط بالبطاقة البنكية، قبل أن ينفجر ضاحكا ويقول “علاه أنا سميتني البانكا”.

سيحتفظ المغاربة عن محمد الوفا بصورة الرجل النظيف، المرح، الجذاب، الصارم عندما يتعلق الأمر بالمبدأ، وسيحتفظ له أصدقاؤه بذكرى الشخص الوفي. فالأهم في هذه الحياة هو خصلة الوفاء، ومن تميز بها فليعلم أن الله يحبه.

رحم الله السي محمد الوفا، كان روحًا خفيفة، خفيفة إلى درجة أنها تسللت نحو السماء في غفلة من الجميع.

*كاتب/ صحفي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *