*محمد  الجلايدي
 
إن انفتاح الإدراك الطفلي على الأمكنة عبر آلية  الحكي ، غالبا ما  تحمل الإدراك على  رسم  ملامح  الأمكنة  تلك بتحريك المٌخيلة .. ومتى أُتيحت الفرصة لزيارة الأمكنة المحكي عنها ، تتبخر تلقائيا الرسومات الخيالية ، وترتسم بدلها طوبوغرافيا الأمكنة ، وتختزنها الذاكرة  في أغوارها كالوشم !! وذلك ما حصل لإدراكي الطفلي في علاقته بفضاء الشاوية ، الذي تعود إليه شجرة العائلة وجذورها .
 
أتذكر بوضوح البدر في ليلة بهيجة ، أيام الطفولة البعيدة ، أن الحكي عن الأيام الخوالي  وعن الحياة والنَّاس ، كان يتناغم  وموضوعةَ الصراع من أجل البقاء ، المرتبط  بسنوات عجاف عمَّت فيها السيبة البلاد وتلاها الجفاف .. وفي معرض كل حكي ، يحدد السارد الأمكنة والأزمنة وأسماء الناس ، وهو يتفنن في تنويع الضمائر .. وكنت أَنشَدّ إلى المحكيات  كمقاطع  حياتية  بكل  جوارحي ! وكم كانت متعة السماع أحلى ، في ليالي الشتاء الباردات ، ووقْعُ  المطر على  سقائف  القصدير ، يُصدِر نغما طروبا ! ترافقه  لذة الخبز الناضج  والمخضب بالزبدة مع كؤوس الشاي . وهي الوجبة الحاضرة دوما في طعام الغداء كما في العشاء ..
 
إقتتال القبائل
 
علق بذاكرتي خلال المرحلة الطفلية تلك ، وعبر السير الذاتية والغيرية ، كمحكيات شفهية ، العديد من أسماء الناس والقبائل والأمكنة والأحداث : كإسم جدي وجدتي وأسماء أعمامي وأخوالي وأبنائهم ، وأسماء في سياق علاقاتهم ومعارفهم . وأسماء قبائل مثل : اولاد امحمد ، لَخْلُطْ ، لمَـْذاكْرة ، بني خيران ، ليساسفة ، اولاد مراح .. وأسماء الأمكنة كسوق الأربعاء ، جبل مگارطو ، نهر عْريشة ، نهر زامْرَنْ ، بئر لخْلُط ، حجْرات ليهود ، لوْطى ، الغابة ، ثلاث لَـوْلاد ، مَلْگو ، خريبگة ، ابن احمد ، الگارة..
 
وعبر هذا السمر العائلي تحديدا ، وفي ليالي الطفولة المبكرة ، سأتعرف أيضا على وجه مظلم من تاريخ البلاد . كان الناس فيه ، يموتون  جماعات ، بسبب الاقتتال الداخلي ( لأفهم – فيما بعد – عن طريق البحث في التاريخ  السياسي  للمغرب ) ، أن  هذا الاقتتال ، عّم  المناطق الخارجة  عن  مجال السلطة المخزنية ، التي رفضت ساكنتها دفع الضرائب . ومن بينها سهول وهضاب الشاوية وقبائلها . وكان ذلك بين سنوات 1909 – 1912م ، وهي المرحلة التي عرّفها المؤرخون بمرحلة السيبة ..
 
وعبر السمر نفسه ، سيدرك عقلي الطفلي أمراََ آخر ، لا يقل خطورة  عن  الأول ، ويتعلق بالمجاعة التي حصدت بدورها الناس جماعات ، حين عّم الجفاف والقحط والجراد والطاعون والتوفيس .. وظلت  الذاكرة الشعبية للمغاربة تحتفظ  بأدق تفاصيل هذه التراجيديا ، ومنهم أهلي !. 
القحط والسيبة
 
فأمام  وحش الجوع باع الناس الأرض بأبخس الأثمان ، وتنازل آخرون عن أرضهم مقابل ما يطعمون به أفواه الأبناء الجائعة .. كما فعل جدي – الذي اضطره الوضع  أن  يقايض الفدان  بـ « عينْ شْواري » من القمح – واضطر آخرون إلى افتراس الكلاب والثعالب والقطط والخنازير .. وجذور نبتة « إيرني » -التي كان لها الفضل في بقاء أمي على قيد الحياة ، بعد أن ولدتها جدتي لتموت بُعَيْد لحظة الولادة مباشرة  – والإقبال على «البقولة» و« الكرنينة » و« الترفاس » و« الجراد المقلي والمشوي » ، الذي صار وجبة رئيسية لاتقاء سطوة، الجوع الفتاك .
 
وسأفهم فيما بعد – طبعا – وعن طريق البحث في تاريخ المجاعات والأوبئة بالمغرب ، أن الأمر يتعلق بمجاعة  عام  1945م . وهي الأخطر على الإطلاق  في تاريخ  البلاد . إذ لم  يشهد المغرب  مثيلا لها  منذ عهد المولى إسماعيل – كما أرخ لذلك الباحث والمؤرخ  “جيرمان عياش” الذي عايش ظروف هذه المجاعة . وما مزاد هذه المجاعة خطورة ، الإستنزاف الخطير للمواد الغذائية ، لتمويل مجهود الإستعمار الفرنسي خلال الحرب العالمية الثانية . مما أنعكس سلبا على الوضعية الاقتصادية والاجتماعية و الغدائية للمغاربة . فعمهم  العجز الشامل أمام  المجاعة ، وجعلهم هذا الوضع المركب في حالة شلل تام أمام مواجهة الأمراض والأوبئة ، المرتبطة بالجوع وقلة  النظافة..
 
ولم أكن أعلم وقتها ، أن هذه الليالي السامرات ، وما سمعته فيها ، من أسماء لأناس وقبائل وأمكنة ، سيكون لها شأن في بلورة فهمي وتوسيع إدراكي ، لجذور شجرتي والفضاء الذي منه انحدرت . وكيف كُتِبَ لي أن أكون !! وهو فَهْمٌ لم أكتف فيه بدفاتر التاريخ وكتب الجغرافيا والأبحاث السوسيولوجيّة . بل اعتمدت فيه أيضا على البحث والتقصي باعتماد المعاينة للأمكنة ، والرواية الشفهية ، بخصوص الوقائع والأحداث التاريخية ، في علاقتها بالأعمدة الأساسية لامتدادي العائلي . وكذا القرارات التي لولاها لما  قُدِّر لي أن  أحظى  بالوجود  في هذه الحياة . وكم هو طريف ، أن أحترم : نبتة « إيرْني » و« الجراد المشوي والمقلي » و« گرنينة »و« البقولة» !  
 
 رحلة الى القنيطرة
والأروع طرافة أن أعتبر نفسي مدينا  لهذه الأكلات  التي  ساهمت  بشكل أوبآخر أن أكون !!! وهي أكلات صاغتها سوسيولوجيا الظروف القاسية التي عاشها المغاربة ، في صراعهم الوجودي من أجل البقاء ، ومن ضمنهم أهلي الذين شكلوا شجرة جذوري .. وهي الظروف التي حملتهم على الهجرة إلى القنيطرة ، والسكن بضاحيتها الشرقية في دُوّارْ الرْجا فلله ، مثلما حملت غيرهم إلى هناك ، أو بجوار الـ( هناك ) في الدواوير الأخرى !
 
*قاص /القنيطرة/المغرب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *