بقلم: مصطفى الفن

 

رحيل عبد الكريم الفن، الطبيب الأخصائي في جراحة الأسنان بمرض لعين ظل يصارعه وحيدا وفي صمت، هو بلا شك مصاب جلل ورزء مزلزل للكيان والقلب والوجدان.

وإذا كان صحيحا أن هذا الرحيل المبكر لإطار طبي كبير كان له وقع الصدمة المدوية على عائلته وإخوانه وأصدقائه ومحبيه وقبيلته…

لكن المؤكد أيضا أن هذا الابن البار للوطن والمنتوج الخالص للمدرسة العمومية رزئت فيه أيضا حتى مهنة طب الأسنان التي أعطاها كل شيء بما في ذلك روحه وحياته.

عبد الكريم الفن معروف وسط زملائه في طب الأسنان ك”fédérateur” بين التيارات الموجودة داخل الإطارات المنظمة لهذه المهنة..

كما أنه معروف أيضا بالروح المرحة وبالنكتة وبالدعابة وبالضحك وبـ”الشدان الناعم والخفيف” في أصدقائه وصديقاته، لكنه معروف أيضا ب”الجدية” إلى حد “القداسة”.

وهذه “الجدية” ليست شأنا طارئا وقع في منتصف الطريق أو ضرورة أملاها السياق المرتبط بمزاولة هذه المهنة..

بل إنها “جدية” نزلت على شكل هبة من السماء ورافقته طيلة مسارة الدراسي منذ أن كان طفلا وتلميذا ثم طالبا بكلية الطب بالدار البيضاء.

والمقربون من عبد الكريم الفن خاصة الذين مروا من الحي الجامعي يعرفون جيدا كيف أن ابن بلدة كيسر وقبيلة أولاد سيدي بنداوود نقل أكثر من مرة الى المستعجلات..

والسبب هو هذه “الجدية” التي فرضت عليه مرارا وتكرارا أن يصل الليل بالنهار (nuits blanches) وهو مجمد فوق كرسي بارد بالساعات الطوال لالتهام الحرف والكتب و”االبوليكوب”…

عبد الكريم الفن، العاشق لأرض وتراب وأهل القبيلة إلى حد الاعتقاد، بصم على مسار دراسي لافت.

وهو مسار جمع فيه بين التفوق والريادة في تخصصه الأصلي وهو دراسة طب الأسنان وبين دراسة العلوم السياسية بكليات الحقوق والتي حصل فيها على شواهد عليا.

الراحل عبد الكريم الفن شارك وقاد وأطر باسم الجمعية المغربية لوقاية الفم والأسنان أو الهيئة الوطنية لأطباء الأسنان ملتقيات وقوافل طبية وطنية ودولية.

ورغم الفوبيا التي كانت تنتابه من ركوب الطائرة غير أن هذا لم يمنعه من السفر إلى دول كثيرة وإلى بؤر النزاع والتوتر  لتلقين ثقافة طب الأسنان وأيضا لنشر الوعي الصحي وسط شعوب الأرض.

ويحكي كل الذين رافقوا الفقيد في هذه القوافل والمنتديات الطبية إلى الخارج كيف كان يتحدث، بحب وبافتخار كبير، عن إنجازات بلده وعن ثقافة بلده وعن كل ما جميل في بلده وعن رموز بلده.

أكثر من هذا، لا يمكن لعبد الكريم الفن أن يسافر إلى أي دولة في العالم دون أن يصطحب معه الزي التقليدي المغربي والعلم الوطني وصور الملك محمد السادس ليلتقط الصور النادرة حيثما حل وارتحل.

وهو لا يفعل هذا من أجل التكسب والتقرب والتزلف لجهة ما أو ليتقاضى عليه أجرا، لأن السيد طبيب ناجح في مهنته ويحب أن يأكل من يده ومن عرق جبينه ومن ماله الخاص.

عبد الكريم الفن يفعل هذا بإيمان وباقتناع وبالفطرة أيضا لأن الرجل يؤمن بأن مشاركته في هذه الملتقيات الدولية هي ليست بصفته ممثلا لهيئة مهنية وإنما بمثابة سفير مواز لبلد اسمه المغرب.

وهذا التماهي مع كل ما هو وطني والدفاع عنه بشراسة كان جزءا من ثقافته حتى في جلساته العائلية معنا نحن إخوانه هنا بالمغرب.

 وربما لهذا السبب بالتحديد كان عبد الكريم لا ينطق اسم الملك إلا مقرونا بكلمة “سيدنا” كما لو أنه يتحدث في مناسبة رسمية.

هذا هو عبد الكريم الفن. عاش محبا للناس وللقبيلة ولناس القبيلة وللحياة أيضا..

لكنه، ولحكمة يعلمها الله، رحل في قمة العطاء والنضج وهو في الأربعينيات من العمر.

وأنا أتحدث عن خصال الراحل والدموع تغالبني فإني الآن لا أفكر إلا في طفله الوحيد ذي الخمس سنوات.

لماذا؟

لأن المرحوم كان له ارتباط غير عادي بطفله وكان مستعدا أن يموت ليعيش ابنه.

فماذا أقول لك يا أخي ويا ابن أمي وأبي وأنت الراقد الآن تحت التراب؟

لا شيء سوى أن كثيرين سيفتقدونك كثيرا وسيتألمون كثيرا وسيبكون رحيلك كثيرا وهم يرددون هذا الدعاء بخشوع زائد:

فلترقد روحك بسلام أيها الإنسان الطيب والى جنة الخلد بحول الله وإنا لله وإنا إليه راجعون.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *