محمد البقالي
في هذا المقال يكتب الزميل محمد البقالي الصحفي المغربي بقناة الجزيرة من ساحة الحرب بإقليم كرباخ، عن إتفاق وقف الحرب بين أذربيجان وأرمينيا.
إليكم المقال:
هو اتفاق تحت الضغط: ضغط المعارك وضغط “الأصدقاء” الذين تبين عندما جد الجد أنهم باعوا الوهم لأرمينيا بعدما وعدها بدعم لم يأت أبدًا.
في الميدان وصلت القوات الأذربيجانية إلى شوشه ( وفق التسمية الأذربيجانية) أو شوشي وفق التسمية الأرمينية، ومن يسيطر على على هذه المدينة كما ذكرت في تدوينة سابقة يحسم المعركة. فموقعها الجغرافي المرتفع المطل على كل الإقليم وخاصة على العاصمة ستيباناكيرت التي تبعد فقط بنحو 15 كيلومترا يعني أن حسم المعركة مسألة وقت فقط، بل مسألة وقت قصير.
إذن أسقط في أيدي الأرمينيين عسكريا، ونداء الاستغاثة الذي وجهوه ل”أصدقائهم” الروس والفرنسيين تردد صداه في الفراغ. روسيا قالت انها ستتدخلون اتفاقية الدفاع المشترك التي تربطها بيريفان إذا تعرضت أرمينيا لهجوم ( وليس كارباخ)، بدا الأمر أشبه برسالة لأذربيجان وتركيا أن امضيا فيما أنتما فيه فلا اعتراض لدينا. وفرنسا فضلت أن تبقى وسيطا “نزيها” كما قال وزير الخارجية جان ايف لودريان. في الحقيق لا رغبة لها في خوض معركة في منطقة لا تنتمي الى مجالها الحيواستراتيجي.( لا تركيا ولا ايران ولا روسيا سيسمحون بذلك).
لماذا تركت أرمينيا تتعرض للإذلال رغم أنها حليفتها؟
روسيا كانت تدرك حقيقة التفوق العسكري الأذربيجاني المدعوم تركيا، وكانت على مايبدو تريد أن يصل الأمر لهذه المرحلة من جهة عقابا “خفيفا” لأرمينيا ورئيس وزرائها الذي حملته “الثورة المخملية” عام 2018 من السجن إلى السلطة بخطاب يريد أن يعدل عقارب ساعة أرمينيا على توقيت الغرب بعد قرن من تثبيتها على توقيت موسكو. فكان هذا انتقام روسيا منه ودرسها للآخرين لكن يفكر في إدارة الظهر لموسكو. ثم إنها من جهة ثانية تستميل بهذا الصمت الذي يدل على الرضا أذربيجان إلى صفها، وتقدم أيضا هدية لتركيا ستنتظر مقابلا لها في منطقة أخرى في إطار تفاهمات ممتدة من سوريا إلى ليبيا إلى شرق المتوسط فجنوب القوقاز. ثم من تكون أرمينيا بالنسب لروسيا؟؟ إذ أن غضبها ورضاها يتساويان في نظر موسكو!! ( ومرة أخرى المغطي بديال الناس معرب، ينطبق المثل على علاقات الأفراد والدول).
هكذا وجدت أرمينيا نفسها مجبرة بحسابات المعركة والسياسة على توقيع الاتفاق، لأنها خيرت بين اتفاق فوري تتوقف بعده المعارك ويتوقف الجيش الأذربيجاني عند حدود شوشة/شوشي، أو استمرار المعارك بما يعني سقوط العاصمة وبقية تراب الإقليم.
لذلك ابتلع رئيس الوزراء السكين لوحده ووقع بدون كاميرات تخفيفا من وطأة الإذلال.
في المقابل يبدو الأمر رغم أن أذربيجان لم تسترجع كل الإقليم المعترف به دوليا ضمن ترابها، فهي ترى فيما تحقق انتصارا كبيرا: استرجعت أراضيها المحتلة عام 1994 من أرمينيا (20% من مساحة أذربيجان)، واسترجعت نحو 60% من إقليم كارباخ، و 40% المتبقية لن تكون للأرمن بل ستصبح بمثابة أرض خلاء تجوبها الدوريات الروسية والتركية لمدة خمس سنوات.
هل انتهت القصة؟
هذه الجولة انتهت بالتأكيد بهزيمة مذلة لأرمينيا! لكن لكن لنتذكر الذي فجر هذه المعركة التي اندلعت في 27 سبتمبر هما عاملان أساسيان: إذلال يستبطنه الأذربيجانيون منذ 1990 بعد سيطرة أرمينيا على كارباخ ، وعلى خمس أراضيها وقبولها صاغرة بوقف إطلاق النار، ثم تغير الموازين مع استعداد الجيش الأذربيجاني وانخراط تركيا في المعركة.
سيصعب توقع نشوب حرب أخرى قريبا، لكن على المدى الطويل تبقى الشرارة جاهزة للاشتعال إذا تغيرت موازين القوى أو تبدلت خريطة التحالفات في المنطقة. وهذا في مصلحة اللاعبين الكبار : روسيا اللاعب الكبير التقليدي في القوقاز وتركيا الوافد الجديد أما فرنسا والولايات المتحدة فيبدو موقفهما ضعيفا، وسيكتفيان بالمقعد الخلفي مثل إيران تماما ( وقد فصلت موقفها في تدوينة سابقة).
لكن على المدى القريب، ستدخل أرمينيا أزمة سياسية خانقة. فالغضب الشعبي كبير. هناك إحساس بأن الحكومة باعت الوهم للشعب، ودفعت بالجيش الى معركة لم يستعد لها وعرضت البلد للإذلال.
سنشهد المظاهرات والاحتجاجات، والمرجح أن الحكومة ستسقط.
أولئك الذين غادروا ديارهم قبل شهر وقيل لهم إن موعد العودة قريب استفاقوا اليوم على أن كل شيء قد انتهى.
*صحفي مغربي بقناة الجزيرة